السبت، 19 سبتمبر 2009

تهنئة بعيد الفطر السعيد

تهنئة من القلب لكل الاصدقاء لمناسبة حلول عيد الفطر السعيد ، راجية من الله ان يعيده علينا بالخير والعافية ، وبصلاح حال أمة محمد .....اتمنى للجميع ان يكون عيد هذا العام بداية لاحسن سنوات العمر.

الثلاثاء، 15 سبتمبر 2009

والدتى وذكريات زمنها الجميل ...



تنحدر والدتى من مدينة درنة الجبلية الواقعة وسط ريف جميل حيث تنحصر بين الجبل الاخضر و البحرالذى يضطجع عند أقدام المدينة بسكون حيث تنبثق وسط واحة طبيعية بديعة ، دفعت الرحالة الغربيين الذين مروا بها فى طريقها لمصر لاطلاق تسمية جوهرة البحر المتوسط على درنة، فهى تقوم بين مجموعة من البساتين الخصبة واشجار النخيل الجميلة والفواكه المثمرة التى ترويها جداول منسابة من الوادى تجرى فى قنوات منظمة تسمى محليا ً السواقى، يقال بان الوالى المحلى للمدينة سيدى امحمد بى قام بشقها فى القرن الرابع عشرللميلاد ...ويتميز مناخها فهو معتدل لطيف...بالاضافة لاشتهارها بكثرة الأشجار والنباتات المختلفة بسبب خصوبة أرضهاوتوفر مياه الرى التى تصل إلى المدينة عن طريق وادى درنة ، وتنهمر مياه الشلال فى أبى منصور ، الذى يحصل منه معظم سكان المدينة على حاجتها من المياه النقية العذبة الصالحة للشرب منه ...وكانت درنة تشتهر بموزها الذى كان يصدر الى كل من طرابلس وايطاليا ، وبالإضافة إلى وجود أشجار الفاكهة المتنوعة بالمدينة ونباتات الزينة كالزهور كالورد القرنفلى ، والغرنوقى "زهرة إبرة الراعى" كما تشتهر بنوع من الياسمين المتمز برائحة نفاذة يعرف محليا باسم "النسرى" مما جعل الرحالة العرب يطلقون عليها اسم مدينة الحدائق المعطرة " ، وكانت الورود ونباتات الزينة تباع فى سوق المدينة القديم مع الخضروات والفواكه .. كما أن الهدوء الذى تميز به درنة بمبانيها البيضاء المشيدة وسط غابة من أشجار الفواكه والنخيل والشلال المتدفق بالمياه الغزيرة يعطى السواح والزائرين منظرا ً خلابا ً لا تنساه العين أبدا ً خاصة عند الغروب.


وكانت عودة والدتي من بيت جدى بدرنة محملة بزهر الليمون لا يعنى انها ستعيد الحياة لبيتنا فقط، بل تحمل معهاروح تلك المدينة الجبلية الصغيرة الساحرة المعلقة بين البحرالازرق والجبل الاخضر،تحمل الى عطرأزقتها القديمة وفوارتها الأندلسية ،وعرائشها ،وياسمينها ، وبهجة ذكرى الطفولة ، تنثر الوان من الجمال والفرح ، تبدو كوردة تبعث عبيرها الوهن ، لفرط عذوبته ، فى أوصال من ولد وعاش وسمع وعبر فى واديها ، وشرب من شلالها، وتنزه فى سوانيها.



وتنقسم المدينة القديمة إلى الاحياء الاربعة التقليدية القائمة داخل اسوار القديمة ، وهى كالتالى : حى بو منصور ، وحى المغار ، وحى البلاد وحى الجبيلة ...بالاضافة للاحياء الجديد التى اخذت تنحت لها شوارع وبيوت فى باطن الجبل الصخرى المكسو بشجيرات دائمة الخضرة ، منها حى بابا شيحة، وبابا طبرق ، والساحل الشرقى والساحل الغربى ، وغيرها من احياء تتوسع فى اتجاه الجبل مانحة المدينة منظر جميل باآلاف الاضواء ليلا ، لمن يتطلع من البحر.



يقع بيت عائلة والدتى فى حى بو منصور فى زنقة زليتن حيث يقال بحسب الأبحاث الأثرية حول تاريخ المدينة انها من اقدم ازقة المدينة العتيقة .

 يطل بيت جدى على حافة وادى درنة الذى يقسم المدينة الى نصفين يربطهما جسر رئيسى حجرى بنى فى الفترة العثمانية ثم تم تجديده فى الحقبة الاستعمارية الايطالية ليبقى الى وقتنا الحاضر شاهد على امور وقصص كثيرة تتردد فى جنبات الوادى الهادر الصاخب وقت فصل الشتاء حيث يمتلىء بمياه الامطار التى تندفع حاملة صخور واشجار الوادى وحيواناته بالاضافة للبيوت التى يكون من سوء حظها ان تقع ضحية لغضبة ذلك الوادى..كثيرا ما فتنتنى مراقبة المياه وهى ترتفع فى الوادى ...يقع ايضا بيت جدى بالقرب من مقبرة الصحابة لا يفصلهم عنها سوى طريق رئيسى ، وبالامكان الاستماع للصلاة التى ترفع فى مسجد المقبرة بوضوح ، كما بالامكان متابعة الاحتفالات التى تقام فى المناسبات الدينية كذكرى المولد النبوى والسنة الهجرية واحياء ليالى رمضان من سطح بيت جدى.
 
فى ظل هذه الاجواء نشأت والدتى وترعرعت وكبرت ...والدتى من الجيل الذى ولد بعد نهاية الحرب العالمية الثانية فى نهاية عقد الاربعينات حيث المدن الليبية مازالت محتفظة بشىء من البراءة وبساطة العيش ، ورجالها يعيشون حلم الاستقلال والكفاح لتوحيد الاقاليم الثلاث التى قُسمت اليها بلادى البهية بعد اندحار ايطاليا المستعمر الكريه ، فكانت برقة الاقليم الشرقى لليبيا واقع تحت الادارة البريطانية العسكرية وكذلك اقليم طرابلس الغربى اما الجنوب فهو واقع تحت السيطرة الفرنسية ...تلقت والدتى تعليمها وانخرطت فى شؤون الحياة العامة متطوعة فى دروس محو الامية وجمع التبرعات للثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسى، ودعم المجهود الحربى المصرى ، ومتظاهرة مع صديقاتها وبنات مدينتها الصغيرة- ذات الطابع الشديد التحضر فى محيط بدوى- متظاهرة ضد الاحتلال الصهيونى وتقسيم فلسطين . 


كانت احفظ سيرة حياة والدتى عن ظهر غيب، خاصة عندما بدأت الكتابة لصالح مؤسسة تبرة لدعم المرأة الليبية مابين اعوام (2004-2008) إذ كانت السيدة هناء النعاس تعمل على توثيق تجارب نساء جيل ماقبل الانقلاب ممن تغافلت عنهن الأبحاث والدراسات و مشاريع التوثيق بمركز الدراسات التاريخية ...والدتى كانت احدهن ... لم تتوقف والدتى يوما عن حكاية ذكرياتها او قصصها او تجاربها راوية لى عبرها تاريخ مدينتها الصغيرة الجبلية وتاريخ بلادى عبرها ...كنا نتشارك انا وهى واشقائى وشقيقتى جلسات شتائية طويلة مع والدى الذى كان ينصت صامتا ، ثم سرعان ما ينهمكان فى سرد حياة عاشوها فى ليبيا الخمسينات والستينات بالأخص ، إذ كانا حريصان على غرس محبة الوطن والاعجاب بتاريخنا وتقدير دور اجدادنا ، وتقوية روابطنا العائلية والابقاء على جذوة الانتماء حية بداخلنا ،حتى صرت احفظ تفاصيل التفاصيل ....ولاننا فى شهر رمضان حيث ليالى المحبة والتقارب والتشارك فى السهرات العائلية التى تجمع الاسر وذوى القربى فى داخل الوطن ، وتقرب الاسر والافراد بالمهجر من بعضهم البعض .




احببت ان نتشارك ذكريات والدتى عن طقوس واجواء رمضان وعن الحياة الاجتماعية خلال هذا الشهر فى فترة شبابها فى مدينتها الساحرة :

"...تتذكر أنه لم يكن هناك أنواع كثيرة من الاطعمة ، فقد كانت الشربة الحمراء هى الطبق الرئيسى على مائدة الافطار ، والى جانبها يكون الملفوف ورق العنب ، او الكرنب ، والمحاشى ، ومعه طاجين البطاطا ، او أرز ، أما لحم المفروم فلم يكن الليبيين فى تلك الفترة يستصيغوا تناول اللحوم الخارجية ، فيقومون باحضار لحم خروف وطنى يبلغ سعره الكيلو بسعر تلك الفترة ربع دينار أى 25قرش ، عندما سمعت الرقم أصابتنى حالة ذهول كبيرة ،لأننى ظننتها مزحة او لديها ثقب فى ذاكرتها، فسعر الخروف كله بلحمه وصوفه وقرونه ، حى على قدميه يبلغ سعره دينارين ، او جنيهان بسعر تلك الايام وعملتها ..قلت لماما مازحة كنت اشتريتى بعشرة دنانير خرفان وخبأتيها لهذا الزمن الصعب مما يدفعنى للتساؤل حول وضعنا اليوم فسعر كيلو اللحم الضأن يتخطى ال14 دينار هو غالى بالنسبة للاسر المحدودة الدخل ، ماذا حصل لنا نحن الليبيين؟ .

أما المعكرونة( مكرونا كما تنطق فى لهجتنا المحلية ) فهى قليلة الاستعمال ، لأرتفاع سعرها فى ذلك الوقت ، وكن نساء المدينة يستعضن عن المعكرونة بنوع من المعجنات يقمن بصناعتها ، تسمى دويدا : تصنع من دقيق القمح ، وتعجن بالماء والملح ، ويقمن نساء الشارع أو الأسرة الكبيرة بالتجمع فى بيت أحدهن للقيام بعجن المعكرونة على شكل كرات صغيرة ،ثم يقمن يطرحها على أقمشة نظيفة وتعرضها فى الشمس لبضعة أيام حتى تجف العجينة ثم تجمع وتحفظ فى وعاء من الفخار النظيف ، تقول ماما أن تلك كانت تمثل وجبة لذيذة ضمن وجبات التى كان يعرفها الدراونة فى تلك الفترة ، كانت الدويدا أى اللازانيا فى وقتنا الحالى حيث اعدت محاولة صنعها مع ماما حتى اعرف ماهى بالضبط هذه العجينة ...فى أواخر الخمسينات أستطاع أبن عم ماما أحضر مكينة لعمل المعكرونة السباغيتى ، جلبها له صديق يونانى مقيم فى سوسه ، تشاركا معا فى العمل فى ورشة لتصليح السيارات حيث اصبح يساهم فى تزويد بعض بيوت عائلة والدتى القاطنين زنقة واحدة بهذا النوع من المعجنات .

اما بالنسبة للخبر فقد كان كل بيت فى درنة أو معظمهم يحصلون عليه من خلال تجهيز العجينة ، والقيام برميها فى التنور (موقد محلى موجود فى معظم الدول العربية ) ...أما للحلويات فكانت الكنافة هى التى يتم شراءها من السوق وانما لم يكن شراءها يتم بشكل يومى كما يحصل الان ، فيتم تجهيزها فى البيت ثم ترسل للفرن (الكوشة) من أجل خبزها فى الفرن البلدى ، حيث يقوم أجير الفرن بصب معقود العسل أو الشربات ، بالاضافة لصنع المقروض او الغريبة او الكعك وهذه حلويات تعد للاحتفال بالعيد .... لم يكن سكان المدينة فى ذلك الوقت يعرفون شرب القهوة على مستوى واسع ، بل أن الرجال فقط من يقومون بشربها فى البيوت ، أو فى المقاهى ... تقول ماما صادف حلول شهر رمضان فى فصل الشتاء حيث الامطار الغزيرة ودرجة شدة البرودة، لم يوقف الاسرة والاقارب عن القيام بزيارات وسهرات عائلية تبدأ بعد صلاة التراويح حتى منتصف الليل ، حيث تتذكر ماما عن ذلك أن الخروج تحت المطرملتفين بأغطية صوفية وعباءات الكبار متعة لا تقدر بثمن ،أو مستأجرين حنتور يزحف عبر طرقات المدينة المتعرجة، وزيارة بيت جد والدتى بحى المغار قمة الاثارة فى ذلك الشهر ، لأنهم سيحظون بدلال الجدالذى سيحضر لهم حلوى الشكير(لااعرف ما شكلها لانها مهم قامت ماما بوصفها فلم اعرفها وسط ماهو موجود الآن بالسوق ) والاستمتاع بحكايات الجدة والكبار ، واللعب ، والتسلية البريئة حيث تجتمع الاسرة والاقارب حول العدالة اى ادوات صنع الشاهى على طريقة الليبيين ايام زمان ، والتى تكاد ان تندثر من غالبية بيوتنا او اصبحت مجرد اكسسوارات توضع فى واجهة الدواليب الزجاجية حيث تصنع من الفضة والزجاج الثمين المزخرف ، لتبقى شاهد على زمن يكاد تختفى كل ملامحه ومعالمه .

و تسترجع ماما زيارات شقيقتها المتزوجة الخالة ياسمين التى تكبرها فى السن بكثير، حيث يلتف الجميع حول جدتى وهى تعد الشاهى ، وماما او احدى خالاتى يقمن بتجهيز الكاكوية واللوز ، وتسخين الاطعمة المتبقية من وجبة الافطار لتناولها فى وجبة السحور العائلية ، بساطة فى الزيارة تقابل تكلف زياراتنا فى الوقت الحاضر وعدم الاستمتاع بطعم تلك السهرات بسب الاجهاد والصخب والتبذير المبالغ به فى كثير من الاحيان فيتحول الامر لمهرجان استعراض اطعمة اكثر من كونه فرصة للحديث وتبادل الحكايات والقصص العائلية او الاستماع لحكايات وخراريف تروى حكم وعبر تشبع الروح وتغنى العقل .



أحدث دخول الراديو لبيت والدتى بعد قيام جدى بشراءه أواخر خمسينيات القرن الفائت ، أحدث نقلة نوعية فى تسلية البنات المراهقات اللآئى صرن يستمتعن بمتابعة تمثيليات صوت الشرق الاوسط ، والاستماع الى البرامج الرمضانية ، والاغانى المصرية الخاصة بهذا الشهر الفضيل كاأغنية وحوى ياوحوى ، أو رمضان جاءنا ، او رمضان رحلة الهدى ، كماكانت جدتى وخالاتى يضبطن رمى حبات الشعيرية فى الشوربة (الشربة ) على صوت أذان القاهرة ، لأنه يعنى أقتراب وقت أذان المغرب فى مدينة درنة الجبلية الواقعة على مسافة غير بعيدة من الحدود الليبية المصرية .

 الان عندما تسترجع والدتي ذكرياتها أجد لمعة من الحنين ، والشغف لتلك الايام البسيطة والخالية من المشاكل والهموم الكبيرة ،أحيانا اتعمد أن اعدل الراديوا الخاص بالتلفزيون على صوت الشرق الاوسط ، او محطة الاغانى القديمة ، لكى تستمتع ماما بتذكر أغانى قديمة يبثها الراديو ، تذكرها بفترة شبابها ، وطفولتها .

سأتوقف هنا لاننى لااعرف هل الماضى جميل لاننا لم نعشه ؟ او لان الحنين للماضى صفة ملازمة للانسان ؟ اما ان التذكر والشعور بالحنين هو وسيلة للابقاء على ذات الواحد منا فى حالة تناسق مع بيئته وافكاره ، شرط عدم التفكير فى الانغلاق واقفال الباب امام حياة حديثة اخرى قد نجد فيها مساحات يمكننا ملؤها بالمودة والمحبة كما فى ماضى وزمن جميل ونقى ...مارأيكم أنتم يامن تعبرون محيطى ؟