الأحد، 21 أكتوبر 2018

الأيام الأخيرة لمدينة بنغازي قبيل الغزو الإيطالي..


  فى ذكري الغزو الإيطالي (2) 
 
الثكنة العثمانية العسكرية بمنطقة البركة بمدينة بنغازي أواخر العهد العثماني

وصل الصحفي الإيطالى جوليو بوناتشي الى بنغازي فى يوم 27 سبتمبر 1911 للقيام بتغطية  لصالح جريدة "الكورييرا ديلا سيرا " حول دخول القوات الايطالية الغازية  للمدينة ، حيث ظل مقيما فيها إلى مجىء الإيطاليين الذين كانوا قد وصلوا مياه المدينة يوم 18 أكتوبر 1911 حيث استطاعت السفن الإيطالية الرسو بميناء بنغازي ، وبدء القتال فى اليوم التالي بعد أن تم إنزال بعض من جنود القوات البحرية إلى البر لاحتلال مدينة بنغازي يوم 20 أكتوبر 1911.

وقد أصدر  بوناتشي كتاب صغير الحجم يتضمن يوميات اقامته فى مدينة بنغازي منذ بداية النزاع الإيطالي – التركي وكانت هذه اليوميات قد سبق له نشرها فى جريدة "الكورييرا ديلا سيرا" ، كما أُضيفت لها برقيتين كان الصحفي بوناتشي قد أرسلهما إلى نفس الجريدة ، ونظرا لأهمية هذه اليوميات فى توثيق أحداث الأيام الأخيرة لبنغازي قبل احتلالها من الإيطاليين ، قام الدكتور إبراهيم المهدوي بترجمته للعربية ، وبالرغم من أن مؤلف هذا الكتاب الصغير كان إيطاليا عنصريا تجاه العرب والمسلمين ، إلا أن للكتاب حسنات تمثلت فى اطلاعنا على الأدوار التي لعبها القناصل الأجانب المقيمين فى بنغازي ، ودور رهبان البعثة الدينية الفرنشيسكانية ، وكيف تعامل الليبيين مع الأجانب المقيمين بينهم ، وكيف دافعوا ببسالة عن مدينتهم و ماهو المناخ النفسي السائد فى تلك الأيام ، وادوار الزعماء المحليين فى الاستعداد للغزو  الوشيك ، و كذلك تناول شخصية حاكم المدينة التركي وماقام به من أجل تهيئة السكان للغزو الإيطالي.

قدم الصحفي بوناتشي في أجزاء كثيرة من اليوميات المدونة مبررات مبالغ فيها لأهمية احتلال برقة وليبيا ، و رغم أن الرقابة الإيطالية كانت تمنع نشر كل ماقد يؤدي إلى إضعاف الروح المعنوية عند الإيطاليين أو تشير إلى احتمال استمرار القتال اكثر من الفترة التى يتوقعها الشعب الإيطالي، أو توضح كيف يقاتل الليبيين والأتراك ببسالة كبيرة من أجل بلادهم ، و الانحياز والتعصب فى كلام الصحفي الإيطالي ضد الأتراك والعرب الليبيين ، إلا أنه لم يحول هذا كله من أشارة بوناتشي لسمو أخلاق حاكم بنغازي التركي وحرص وجهاءها الليبيين على سلامة الرهبان الإيطاليين الموجودين فى الفويهات فى الأيام الأخيرة قبل الغزو وحرصهم على سلامة الجالية الأجنبية الصغيرة المقيمة ببنغازي وقتها.

يتألف هذا الكتاب من عدة عناوين صحفية منها ليالي بنغازي، فرقة الأميرالاي برستير، مراد فؤاد بي، راهب محارب، أخبار موجزة من بنغازي ، أيام من الترقب والأمل ، معركة يوم 19 أكتوبر، طلينة بنغازي ، الهجوم القوي ، من أجل المستقبل وغيرها، كُتبت تحتها مقالات أو يوميات بلغة صحفية لا تخلو من الشاعرية فى بعض الأجزاء ، ودون تحليل عميق للأحداث وعدم الاعتماد على المعلومات الموثقة بل تضمنت تلك اليوميات الصحفية الاشاعات التى تنُشر من طرفي النزاع الإيطالي-التركي والليبي.هذه مقتطفات من كتاب الأيام الأخيرة لمدينة بنغازي التركية .

1 أكتوبر:

الساعة 8 صباحا :"يمكن مشاهدة سفينتين حريتين إيطاليتين".

الساعة 9,30 صباحا :" لقد اقتربت السفينتان المدرعة من بنغازي، بحيث أصبحت فى مواجهة المدينة، التى كان يسودها الهدوء التام".

الساعة 10,15 صباحا:"توجه نحو ثكنة البركة العسكرية خمسون جنديا تركيا بدون أسلحة هم عبارة عن مجموعة من المجندين الجدد من أهالي بنغازي تم استدعاؤهم على عجل بمجرد إعلان الحرب".

الساعة 4 بعد الظهر:" لقد وجدت نفسي مضطرا ً اللجوء إلى السيد ف.جونس قنصل صاحب الجلالة (انجلترا) عندما شعرت بموقف خاص يتعلق بوجودي فى أرض العدو بعد إعلان إيطاليا الحرب ضد تركيا مما أدي إلى سفر القنصل الإيطالي مع جميع مواطنيه ....أن نظرتي إلى المستقبل تبدو نظرة متفائلة مطلقة بخاصة كل مايتعلق بسلامتي الشخصية بسبب معرفتي الواسعة فى الماضي عن كل مايتعلق بعقلية أولئم السكان الذين سأكون مضطرا  للعيش بينهم لبضعة أيام قادمة".

الساعة 5 بعد الزوال:" فى تلك الليلة لم أستطع أن أنام فأخذت أذرع حجرتي جيئة وذهابا ، فأخذت أتنقل بسرعة وبصبر خلال أهم الأحداث الرئيسية لهذا اليوم التى كانت قد أخذت تتراقص أمامي كما لو كانت أحداث حية ، مماجعلني ألاحظ أن تصرفات السلطات التركية فى تعاملها مع المواطنين الإيطاليين كانت سليمة".

2 أكتوبر :

الساعة 7,30:"يبدو أنه قد تم تسليح سكان مدينة بنغازي بواسطة السلطات التركية مباشرة بعد استلامها تلغرافا من مدينة القسطنطينية تبلغها فيها بنشوب الحرب مابين تركيا وإيطاليا ، مماجعلني أشعر فى قرارة نفسي بأن إعلان الحرب قد علمت به السلطات التركية فى بنغازي منذ يوم الأمس".

بعد الظهر:" لقد أخبرني رهبان الدير الكاثوليكي بإن السيد مراد فؤاد بي المتصرف قد طمأنهم مؤكدا لهم بأنهم سوف لن يتعرضوا للمضايقات وأنه سوف يضمن سلامتهم فى جميع الأوقات أثناء قيامه بتوليه دفة الأمور فى الحكومة ".

الساعة 4,45:" فى هذا الصباح قامت السلطات التركية بتسيير دوريات عسكرية مسلحة أخذت تجوب شوارع بنغازي مكونة من فرق صغيرة من أهالي بنغازي بقيادة ضابط صف من الزابطية ، والتى قامت بإغلاق جميع المحلات التجارية للمسيحيين، وذلك من أجل المحافظة على استتباب الأمن العام والحيلولة دون حدوث أية قلاقل فى المدينة".

3أكتوبر:

الساعة 4 صباحا:" تناقلت الأخبار صباح هذا اليوم فى المدينة نبأ مفاده بداية قصف المدفعية لمدينة طرابلس بواسطة القوات الإيطالية منذ الأمس بواسطة تلغراف مرسل بواسطة أحد أعيان العرب بطرابلس...يبلغهم بأنه قد تم إغراق ثلاث سفن حربية وزورق طوربيد إيطالي يوم أمس أثناء القصف المدفعي بواسطة البطاريات الثقيلة للقوات التركية ، مماجعلني أستبعد ذلك الخبر فى الواقع حالا، إلا أنه قد أحدث هزة فى نفسي وغصة فى الصدر عجز لساني عن التعبير عنها".

4 أكتوبر:

الساعة 8,30:" قمت بزيارتي اليومية للرهبان المقيمين فى دير الفرنشيسكان، وقد تبادلت حديثي العادي معهم قصف مدينة طرابلس بنيران مدفعية السفن الحربية الإيطالية ، مما أدي إلى نشوب خلاف بني فريقين أولهما من المتفائلين أما الفريق الأحير فقد كان من المتشككين - حول الأخبار الصادرة عن السلطات التركية- الأب كوستانزو الباسيني الذى سبق له المشاركة كسادن مصلي للجنود المشاركين فى الحملة العسكرية الإيطالية ضد الصين 1900...قال بإنه ينتظر بفارغ الصبر من خلال ثقب الباب مجىء الإيطاليين والذهاب مع فرق جنودنا المقاتلين على مرتفعات هضبة برقة كسادن للمصلي، كما يحمل مسؤولية وقوع الحرب على كاهل الأتراك ، وبالتالي ضرورة امتشاق السلاح ضدهم".

5 أكتوبر :

"وصل هذا الصباح إلى ميناء بنغازي زورق شراعي يوناني مشحون بالأسلحة قادما إليها من بيريويس بالإضافة إلى أنه ينقل خبرا (لم أعرف مدي صحته بالضبط)  مفاده أن الأسطول التركي قد أخذ يحتشد فى مياه قونيه.أن قضية تهريب الأسلحة إلى هنا قد أصبحت تثير القلق ، بخاصة وأن كميات الأسلحة والذخيرة التى كان يتم شحنها على متن الزوارق الشراعية اليونانية القادمة من كريت وغيرها من السواحل اليونانية قد تزايدات بكميات كبيرة لايمكن الاستخفاف بها فى هذا البلد".

6 أكتوبر :

لقد انقطعت الاتصالات التلغرافية مع عاصمة الولاية ، بحيث أصبح من المتعذر جدا الرد على النداءات التلغرافية الموجهة من بنغازي إلى طرابلس منذ يوم الأمس ، كما أصبحت بنغازي تعاني من الغلاء وقلة توفر المواد الغذائية ، حقا لقد أصبحنا محاصرين تقريبا ، مما جعل من الصعب على البواخر التجارية الرس وفى ميناء بنغازي ".

12 أكتوبر :

هدوء تام يلف مدينة بنغازي ، مع هبوب عاصفة قوية مساء جعلت الهواء يصير منعشا فى المدينة ، ممايجعل من المتوقع عدم هبوب رياح القبلي الحارة فى القريب العاجل ، أما البي فؤاد فقد كان كما يبدو يشعر بالضيق والكدر ، لأنه قد أصبح مضطرا للاعتراف باحتلال مدينة طرابلس بواسطة جنود القوات الإيطالية رغم أنه قد أعلن للجماهير الغاضبة فى بنغازي التى صدقته بسرعة بأن القوات التركية استطاعت قتل خمسمائة جندي إيطالي بالإضافة إلى أسر ألفين وخمسمائة جندي من القوات الإيطالية المعتدية". 

15 أكتوبر

"بدأ منذ الصباح الباكر من هذا اليوم خمسون شخصا من المجندين بمدينة بنغازي التمرينات تحت إمرة ضابط صف مع بعض الجنود الأتراك العاديين الآخرين تعلم استخدام الأسلحة والتكتيك العسكري فى الساحة أمام القلعة ، وبمتابعتي للحركات والتمرينات  التى كانوا يقومون بها من خلال مراقبتي لهم من نوافذ مبني القنصلية توصلت إلى نتيجة مفادها إنهم كانوا يقومون بإعدادهم للتعود على تدريبات الحرس الوطني، وقد تألمت كثيرا عندما شاهدت بريق الأسلحة تحت ضوء الشمس لأن المجندين سوف يوجهونها إلى صدور الجنود الإيطاليين".

18 أكتوبر:

الساعة 6 صباحا :"منذ الساعة السادسة من صباح هذا اليوم شوهد عمودان من الدخان فى أعلي البحر، أخذ دخانهما يمتد فى السماء بشكل متواز من الشرق نحو الغرب حتي وصلا فى ارتفاعهما إلى مافوق مدينة بنغازي ، مماجعلني لم أشك أبدا فى أنهم هذه المرة عازمون على القدوم حقا".

الساعة 9 صباحا:" شوهدت اثنتي عشر سفينة فى البحر ، يبدو أن أربع سفن منها كانت سفن حربية مدرعة تقوم بحراسة بقية سفن القافلة والتى كانت مكونة من ثماني سفن نقل عسكرية".

الساعة 11 صباحا :"تم إبلاغ متصرف بنغازي بالإنذار النهائي الذى كان قد وجه إليه بواسطة أميرالاي البحر الإيطالي، والذى كان قد حدد له موعد الساعة الثامنة من صباح هذا اليوم كموعد أخير يجب أن تستسلم فيه المدينة للقوات الإيطالية ، إلا أنه فى الواقع أن مدينة بنغازي لم تبد مايدل على رغبتها فى الاستسلام سواء برفع الأعلام البيضاء أو بأية علامات أخري ممادفع القوات الإيطالية البدء فى عمليات الإنزال العسكري لقواتها بكثافة على اليابسة استعدادا لخوض العمليات الحربية المزمع القيام بها".

الساعة 2,30 بعد الزوال:" لقد بقيت حتي اللحظة وأنا أعتقد أن عرب بنغازي والقوات العثمانية النظامية شعروا بأنهم يواجهون عرضا ضخما للقوي ممايفرض عليهم تسليم السلاح وعدم محاولة المقاومة ، بحيث سقوط مدينة بنغازي فى أيدي قواتنا بدون سفك قطرة دم بسبب أن القوات العثمانية تعاني من قلة عدد جنودها كما يبدو لى ....قام الأتراك بالإفراج عن جميع المساجين العرب من سجون القلعة والثكنة العسكرية بالقلعة مما جعل أولئك يرون أن الأتراك ليس لهم رغبة فى المقاومة ولو كانت مقاومة خيالية وهمية ، أما أغلبية سكان المدينة من العرب فقد كانوا يميلون إلى الاستسلام بدلا من القتال، وبخاصة الأغنياء الذين كانوا فى المستودعات والتى تقدر ممتلكاتهم العقارية والبضائع التجارية التى كانت فى المستودعات والتى تقدر قيمتها بالملايين.أما الفريق اذى ينادي بخوض غمار الحرب فيتكون من الفقراء الذين هم من المسلمين الكريتيين بالإضافة إلى الألباني شاكر بي قائد الميدان لحامية ثكنة البركة العسكرية الذين كانوا يرغب فى تنظيم المقاومة المسلحة حتي النهاية، وقد تم عقد اجتماع فى تلك الليلة ضم جميع وجهاء العرب بمدينة بمغازي للنظر فى إمكانية الوصول إلى اتفاق فيما يتعلق باتخاذ قرار قبل نهاية الموعد المحدد للاستسلام". 
 
الانزال الايطالي على شواطىء بنغازي اكتوبر 1911
19 أكتوبر :

الساعة 6,30:" تسلح البنغازيون والبدو العزل بالبنادق واتخذوا من الطراطير الملحقة بالجلابيب التى كانوا يرتدونها كأغطية واقية لحماية رؤوسهم من تساقط المطر الغزير، بينما كانوا يعبرون ساحة الملح باتجاه البركة....إذا فقد فاز الفريق الذى كان يدعو إلى مواصلة الحرب ضد القوات الإيطالية خلال الاجتماع الذى كان قد تم انعقاده ليلا ، أولئك الذين كانوا عبارة عن حزمة مترابطة من المجانين، فقد أخذوا يزحفون بكل جدية هذا العالم من أجل الدخول فى حرب ضد السن الحربية الإيطالية ، وهم يخرجون فرادي للذهاب لخوض المعركة كما نفعل بالضبط كل صباح عند ذهابنا إلى مقرات أعمالنا".

ساعات مابعد الزوال:"بعد يوم طويل خاضت فيه قواتنا معركة طاحنة مسعورة ، لم يتمكن جنود قواتنا دخول مدينة بنغازي ، مماجعلني غير قادر على وصف تكملة إنزال قواتنا الإيطالية بجليانة فى هذا اليوم والمعركة التى عزموا خوض غمارها ، بسبب أنني أريد أن أكون صادقا فى تسجيل ماسوف أراه بعيوني فقط فى دفتر يومياتي هذا، فالذي أقرأه هو ماسوف أكتبه دون إضافة أية ألفاظ تعبيرية إليه".
الساعة 8 وثلاث دقائق:" كرهت الطلقة الأولي التى كانت قد انطلقت من مدافع إحدي السفن الحربية التى كانت قد بدأت المعركة ".

الساعة 9,15:" واصلت سفن الطوربيد الحربية عمليات الإنزال العسكري، بحيث أخذت تقوم بجر قوارب مليئة بالجنود بكل انتظام نحو رأس جليانة ، يبدو أن القذائف المدفعية الأولية التى كان قد تم إطلاقها على منار المدينة كانت عبارة عن خدعة، حيث شوهد فيما بعد أن إنزال الجنود قد تم فى رأس جليانة ".
الساعة 6,30:" وقف مالطي فى فناء القنصلية الإنجليزية يسرد الأحداث حيث استطاع أن يعقد مقارنة بين المدفعية التى استخدمها الأتراك لصد زحف القوات الإيطالية من التقدم إلى الأمام، ومجموعات العرب العزل من السلاح الذين كانوا يتقدمون من بنغازي نحو البركة على طول شاطىء البحر تحت وابل من قذائف المدفعية الإيطالية التى كانت تنفجر وسط حشود المقاتلين العرب مما يؤدي إلى سقوط بعض القتلي بينهم الذين لايسارعون إلى تقديم الإسعافات اللازمة للمصابين منهم بل يواصلون مسيرتهم بكل شجاعة نحو الأمام بعد الاستيلاء على سلاحه ومحفظة الخرطوش الذي كان يحملها ".

تقرير ملحق باليوميات حول معركة يوم 19 أكتوبر:"....استخدمت السفن الحربية الإيطالية فى أثناء قصفها لمدينة بنغازي يوم 19 أكتوبر المدافع المتوسطة المدي ، عند الساعة 8 من صباح يوم 19 أكتوبر اتخذت السرايا العسكرية مواقعها بسرعة بحيث شكلت جبهة حربية موجهة ضد العدو، وعند الساعة 9,45 صباحا قامت السرية الأولي من سلاح المشاة بعملية إنزال بحري ، وعند العاشرة بدأ العدو بإطلاق النار من جهة المقبرة المسيحية الذى تزامن مع طلقات مدفعية من السفن الحربية الإيطالية ، غير أن اطلاق النيران لم يستمر طويلا من جانب العدو مما سمح بتقهقر الإيطاليين للوراء باتجاه المقبرة المسيحية –منطقة جليانة- تاركين خلفهم بصفة مؤقتة بعض المعدات الحربية ،تحت نيران العدو المكثفة ....كانت جبهة القتال للعدو مكونة من الجنود الأتراك النظاميين مع خليط من عرب بنغازي والبدو الذين يقطنون خارج المدينة ، كان الضباط الأتراك ينضمون أعمال الفرق العسكرية المتعددة ، وكما كان ينضم مجموعات جديدة من المقاتلين بصفة مستمرة ..هذا ويمكن وفقا لما يجري فى الواقع بالمعركة تقدير تعداد قوات العدو التى كانت تواجه قواتنا قد وصل إلى 2500 شخصا .

منتصف ليلة 19 أكتوبر:

" فى أثناء إقامتي بالقنصلية الإنجليزية كنت أحرص دائما على ارتداء ملابس أوربية عادية ..أما غدا فإنني أرغب فى تغيير مظهري، لربما بسبب مرتديا بدلة من قماش كاكي منتعلا حذاء فرسان واضعا فوق رأسي خوذة مصنوعة من شجر الفلين من أجل ممارسة نظام التجنيد على نفسي ...فى الأثناء أخذت السفن الحربية تسلط الأضواء الكاشفة على بعض أجزاء المدينة ، كان القصف المدفعي الليلي مختلفا كثيرا من حيث حدة قوته من القصف المدفعي الذى كان قد حدث فى الصباح الباكر ....الآن علينا أن نري عما إذا كان الوجهاء العرب بمدينة بنغازي قد قاموا فعلا برفع الراية البيضاء فوق مبني القلعة ، حيث يبدو لى أن القصف المدفعي للمدينة بواسطة السفن الحربية قد توقف، اقتربت من نافذة صالة الأكل وألقيت نظرة على الراية البيضاء ترفرف فوق القلعة ، وأخذت تتموج على أضواء الفانوس بعد أن لف المدينة السكون والهدوء ثانية ".

بنغازي 20 أكتوبر:

"عند تمام الساعة 7,20 من صباح هذا اليوم نزل إلى اليابسة بواسطة زورق حربي النقيب كابوماتزا برفقة بضع جنود من البحرية حيث قام برفع العلم الإيطالي على مبني الجمارك والقلعة ، وأقنع الوجهاء العرب وعميد البلدية بضرورة الصعود معه إلى متن السفن الحربية لأجراء محادثات مع الأميرالاي أوبري الذى قام بألقاء موعظة طويلة على وجهاء العرب فى أثناء لقائه بهم مبينا  لهم نية إيطاليا فى توطيد السلام بإقليم برقة".

الساعة 5 بعد الزوال:"قامت السفن الحربية بقصف منطقة أشجار النخيل الوقاعة شمال بنغازي القريبة من المنار ومخازن البارود بعد التأكد من قيام العدو بهجوم طفيف ضد جناح قواتنا الأيسر ".

21أكتوبر:

"نزل القائد بريكولا قائد فرقة جنود الاحتلال الثانية يصحبه قائد أركان حربه بمبني القنصلية الإيطالية، حيث أصدر قرارا بتجريد مدينة بنغازي من السلاح ، كما نص على تعرض من يخالف ذلك لأشد العقوبات وعليه يطلب من لديه سلاح تسليمه بأسرع وقت ممكن ......أخذت فرقعة الطلقات تسمع من على مسافة بعيدة بسبب استئناف قواتنا البحرية القصف المدفعي لمساعدة وحماية الجناح الأيسر من قواتنا..وقد صدر أمر بالقتال قرب ثكنة البركة وبدأت الفرقة العسكرية الثانية من سلاح المشاة بالزحف نحو البركة فى عتمة الليل بينما تسمع اصوات الطلقات النارية وصفارات الإنذار الليلية ".

23 أكتوبر :

"لقد علمت أن الفيلق الرابع الذى يكون السرية الأولي لسلاح المشاة التي تم إنزالها إلى اليابسة يوم 19 أكتوبر قرب جليانة قد تكبدت أحد عشر قتيلا وخمسة عشرين جريحا ، وكان من بين الجنود الجرحي ثلاثة ضباط منهم القائمقام جانتيانو ".

24 أكتوبر:

" حقا  لقد وصلت أخبار الاستعدادت الحربية لقواتنا العسكرية فى هذه الساعة إلى بقاع بعيدة فى برقة وفى الواحات وعلى طول امتداد طرق القوافل التجارية التى استطاعت نقل هذه الأخبار إلى أعماق قارة افريقيا كما تم نقل هذه الأخبار من ناحية أخري على أجنحة التلغراف بطريقة مبالغ فيها بشكل خيالي الغرض منها نشر فكرة عن مدي قوة إيطاليا بين السكان الأهالي. أن قواتنا فى هذه الخطوة الأولي من مرحلة الاحتلال تعتبر أفضل وسيلة من أى عمل سياسي ، فاليوم علينا أن نبدي يدا من حديد ، أما غدا فعلينا أن نبدي يدا أخري للتعامل بها مع السكان الأهالي ، يدا ترتدي قفازا من المخمل الناعم".

****
كتاب الأيام الأخيرة لمدينة بنغازي التركية "احتضار متصرفليك برقة"
المؤلف: جوليو بوناتشي
المترجم:د.إبراهيم المهدوي
منشورات جامعة بنغازي"قاريونس سابقا"
2008، 184ص


السبت، 13 أكتوبر 2018

إقلاع وهبوط - سيرة طبيب من رأس بيروت ..


قادتني الصدفة والأرق لكتاب "اقلاع وهبوط: سيرة طبيب من رأس بيروت " للدكتوراللبناني منير شماعة ،وفيه يروي قصة حياته ويبرر شماعة رغبته فى كتابة سيرته الشخصية بالقول :" عندما يصل الإنسان إلى عمر معين ، وتبدأ رحلته الأخيرة ينتابه القلق ، لأنه سيذهب بلا طنة ورنة ، فيعمل على كتابة مسيرته، آملا أن يترك بصمة فى أذهان الناس" ، وقد شبه حياته بالمراحل التى تمر بها الطائرة من اقلاع وتحليق وهبوط جاعلا منها عنوان لكتابه .

يتضمن عدة فصول تناول فيها الطفولة والدراسة فى منطقة رأس بيروت وسفره للدراسة فى الولايات المتحدة الامريكية فى الفترة مابين 1955- 1957 ، وآراءه عن الحياة والعلاقات بين الجنسين والمناخ العلمي داخل المؤسسات التعليمية الامريكية و المستشفيات هناك ، ثم فترة عمله فى المملكة السعودية لفترتان متباعدتان يسجل انطباعاته عن السعوديين ، كما يتناول تجربة الخطف خلال الحرب الأهلية  ومن خلالها نتعرف على آراءه فى الفكر والسياسة والمواطنة والعروبة والطائفية ، و لم يكن الدكتور منير صاحب رؤية انعزالية رغم مامر به خلال الحرب الاهلية من تجارب لعل اشدها قسوة اختطافه من احد الجهات قبل أن يُطلق سراحه بواسطة السيد محمدحسين فضل الله ، إذ ظل يرفض منير شماعة مغادرة بيروت حتى في أشرس أيام القتال خلال الحرب الاهلية، ولم يجد في كل العروض التي قدمت له من ملوك عرب ومستشفيات امريكية واوربية ما يدفعه للرحيل عن بيروت.

تميز الكتاب بلغة بسيطة سلسة لاتخلو من عمق المعني ، يأسرك صدق الكاتب وأمانته هو يتناول تجاربه وافكاره وماطرأ عليها من تغيير وتحول فكري ونفسي دون استعلاء  ، تجعل قراءته أقرب للدردشة مع صاحب الكتاب مع وضع علامات على بعض الأجزاء فى الكتاب للعودة والتأمل فى تجربة الدكتور شماعة.
****
ولد منير شماعة  فى العام 1926 فى منطقة رأس بيروت فى أسرة مكون من ثلاث صبيان و ثلاث بنات كان منير أصغرهم، بدأ دراسته فى الخامسة من عمره فى الحضانة عند السيدة أمينة المقدسي ، ثم التحق بالمدرسة الابتدائية التابعة للجامعة الأمريكية فى سنة 1935 حيث يذكر عدد من زملاءه من الأطفال العرب ممن أصبحت لهم مكانتهم فى بلدانهم منهم الشيخ عبدالله الغانم وزياد الشواف وجاسم فخرو ويقول :" بالرغم التفاوت المادي الكبير مابيني وبينهم والذى يظهر فى ملابسي فإن صداقتنا كانت حميمة جدا".
 

أكمل المرحلة الابتدائية فى سنة 1939 ودخل بالمدرسة الاستعدادية ، وفى ذلك الصيف اندلعت الحرب العالمية الثانية التى وجد فيها منير لذة كبيرة فى متابعة اخبارها وتفحص الخرائط الجغرافية ، كذلك فرصة البقاء فى بيروت بدل قضاء الصيف فى الجبل ، ويقول عن هذه الفترة من حياته :" من أهم ما اختبرته فى الحرب العالمية الثانية بروز ظاهرة الطائفية للمرة الأولي فى تفكيري .فعائلتنا بالرغم من أنها مسيحية لم تكن يوما تعير ممارسة الطقوس الدينية اهتماماً ...وكان أول اختبار لى مع الطائفية فى المدرسة إبان الحرب العالمية الثانية حيث انقسم الطلاب إلى قسمين.فالمسلمون كانوا مع المحور ، أى ألمانيا وإيطاليا، والمسيحيون كانوا مع الحلفاء .وبالرغم كم صداقات المسلمين والمسيحيين الحميمة ، فإن الاختلافات كانت صاخبة عندما تبحث مسيرة المعارك....واسترعت تلك الظاهرة انتباهي ولم أستطع فهمها آنذاك .فالطائفية بالنسبة لى لم تكن فى الحسبان، وبالأخص فى رأس بيروت التى كانت المثل الأعلي للأنصهار الوطني ..ولا بد من القول إن الاختلافات ، بالرغم من هذا الانقسام الطائفي ، لم تتعد التحيز إلى هذه القوة الخارجية أو تلك .فالمسلم والمسيحي فى ذلك الوقت كانا متفقين على كل الأمور التى تتعلق بوطنهم، والصداقات الحميمة بين العائلات المسيحية والعائلات المسلمة لم تعكرها أى شائبة ".

كان للحرب العالمية الثانية تأثير كبير على المستوي المعيشي للأسرة منير ، فقد توفي والده مع بداية الحرب بنوبة قلبية وهو فى عقده الخامس ، فأصبحت والدته هي المسؤولة عن ادارة مطعهم الصغير وتولي زمام الأسرة لايصالهم لبر الآمان. 

عمل منير كمحاسب و جرسون فى مطعم والده وكان استرعي انتباهه عند التدقيق فى دفاتر الزبائن أن الأغلبية الساحقة تطلب الوجبات التى لايزيد سعرها على الثامنية عشر قرشا ، باستثناء عدد قليل جدا من الزبائن كانوا ينفقون خمسة وعشرين قرشا على الوجبة الواحدة  وهو مبلغ باهض مقارنة بأسعار تلك الفترة، فسأل والدته التى أجابته بأن كل هؤلاء من الفلسطينيين الذين كانوا أغني الشعوب العربية ـ يأتون إلى لبنان البلد الرخيص ويصرفون كل جنيه فلسطيني بعشر ليرات سورية ، فينفقون المال بلا حساب .

يشير منير للحياة الأسرية التى عشاها رغم الفقر واليتم والحرمان ، إلا أن علاقة والديه كانت علاقة حب متينة مبنية على الاحترام ، وكانت امه من أوائل النساء اللواتي تخرجن من المدرسة الأمريكية آنذاك ماجعلها حريصة على ان يكمل منير تعليمه الجامعي رغم الظروف الاقتصادية التى مروا بها بعد وفاة الأب .


دخل الجامعة سنة 1943 وهناك بدأ يدرك الفروق المادية والاجتماعية فى مجتمع الجامعة الأمريكية ، وهنا يحكي منير عن جوانب لا يسهل تناولها فى مثل هذا النوع من كتب السير الذاتية فى العالم العربي ، فهو يشرك القارىء فى تجاربه النفسية ومعاناته أمام النساء وعدم قدرته على التحدث معهن بيسر كما كان يفعل رفقاءه ، وكان يري فى نفسه بشع لا يمكن لأي فتاة أن ترضي بالنظر إليه ، كما أن فقره وعسر معيشته لا تساعدانه على كسب قلوب الفتيات فتقوقع على نفسه لمدة ثلاث أو أربع سنوات صب فيها كل تركيزه على القراءة والدراسة حيث كان يقضى معظم الوقت فى مكتبة الجامعة . رغم ذلك ولتفوقه الكبير ساعده على التعرف على العديد من الشبان الذين احتلوا فيما بعد مراكز القرار فى لبنان وبعض الدول العربية منهم عمر السقاف .

يتناول منير فى مذكراته المناخ  السياسي والاجتماعي فى الجامعة الامريكية فى الفترة مابين 1934-1947 حيث ساد اكثر من اتجاه منها الاتجاه القومي السوري الذى استقطب نخبة من الشبان من جميع الأديان وجميع البلدان وصهرهم من الناحية الثقافية وجعلهم من العلمانيين .أما الاتجاه الثاني فكان اتجاه العروبيين أو المؤمنيين بالوحدة العربية . كما برزت حركة سياسية أسستها شلة من المثقفين اللبنانيين أمثال كاظم الصلح وتقي الدين الصلح ورامز شحادة وغيرهم وكان خطهم السياسي خطا عربيا واضحا لا دور للطائفية فيه وسميت هذه الحركة بحزب النداء القومي وكان لها منشورات عديدة تدعو الى الوحدة العربية ورص الصفوف ونبذ الخلافات .ثم القوميين العرب فكان للدكتور قسطنين زريق نشاطه المتمثل فى عقد اجتماعات سرية يحاضر فيها عن فكرة العروبة ، وكان من مؤسيي الحركة الدكتور جورج حبش زميل منير فى كلية الطب وزميله بالمسكن فى النادي الثقافي البريطاني لمدة أربع سنوات ، وكذلك كان عضو فى هذه الحركة وديع حداد و هاني الهندي .

أما الاتجاه الثالث فكان ابرز سماته نشوء الحزب الشيوعي اللبناني الذى استقطب العديد من المثقفين منهم الدكتور منصور أرملي زميل منير ، بالإضافة لعضوية كلا من عدنان هلسة وعبدالحليم السعدي وآخرين .

العلاقة بين الاتجاهات الأربعة لم تكن دائما ودية فالعلاقة بين القوميين العرب والشيوعيين كانت عدائية والخلاف حول قضية فلسطين ، لكن جميع هذه الأحزاب والحركات كانت تلتقي كلها حول العلمانية  ، ويقول منير شماعة حول هذه النقطة :" المؤسف والمحزن أن جميع الأحزاب التى التقت على العلمنة وفصل الدين عن الدولة اضمحل نفوذها ودخلتها التيارات الطائفية والمذهبية على أنواعها.وفشلها هذا ساهم إلى حد كبير فى بروز أحزاب طائفية صرفة كالتيى نجدها فى لبنان فى يومنا الحاضر.فبينما كنا علمانيين قلبا وقالبا منذ خمسين سنة أصبحت هويتنا الآن طائفية ومذهبية".

حول عمله بالسعودية لفترتان مختلفتان يقول الدكتور منير:" عرفت الإنسان السعودي منذ زمن بعيد وعشت خصاله الحميدة ودماثة خلقه وطيبته وكرمه ومازلت أفخر بصداقتي للكثير من السعوديين الذين أحبوا لبنان واللبنانيين ". لكنأن السيل المتدفق من الدخل المالي جعل من المال هو العنوان الأول فى المملكة وتغيرت كل المقاييس ، فبعدما كان المواطن السعودي يعمل جاهدا فى الثلث الأول من القرن العشرين لكسب لقمة العيش ، أصبح المال يتدفق عليه بلا حساب ، ماأحدث تغييرات بشعة فى تصرفات بعض صغار النفوس من أهالي المملكة خصوصا فى تجوالهم فى بلاد الغرب مماجعلهم فريسة للأعلام الغربي والصهيوني .

أما عن انطباعات الدكتور منير حول الحياة الامريكية فلم تخلو من نظرة سلبية للقيم المادية الطاغية على المجتمع الامريكية ، و لخلو العلاقات الأسرية والعائلية من تلك الروابط القوية المتينة كما فى الشرق حسب رأي الدكتور منير ، وأن كان يري فى تجربته فى الولايات المتحدة الامريكية غني كبير عملته الكثير خصوصا فى محيط جامعة هارفرد التى تخصص فيها فى طب الجهاز الهضمي .كانت تضم مالايقل عن ثلاثة أساتذة يحلمون جائزة نوبل فى الطب والكيمياء العضوية ، ويقول حول ذلك:" عندما تتحدث معهم يبدون كأنهم صغار القوم يلبسون الثياب البسيطة ويعملون فى مكاتب متواضعة لاتبلغ مساحة الواحد منها مساحة غرف البوابين فى شقق بيروت الفخمة ، وهم يعملون من الصباح الباكر حتي ساعات متأخرة من الليل فى الدراسة والأبحاث ثم يستقلون الفطار ليذهبوا إلى بيوتهم ... كما تجد أن الأستاذ فى أمريكا يردد بعد كل جملة يقولها:"وقد أكون على خطأ" و" وأرجو أن تدلوا بآرائكم إذا كانت تختلف عما أقوله لكم". فالتواضع العلمي والذهني الذى وجدته فى أمريكا كان له التأثير العظيم على حياتي العلمية".

****
كتاب إقلاع وهبوط - سيرة طبيب من رأس بيروت
المؤلف: منير شماعة
دار رياض الريس للكتب والنشر
2008 ، 178 ص
    

الثلاثاء، 2 أكتوبر 2018

ليلة مرعبة : محمد الأسطي يتذكر الأيام الأولي للغزو الإيطالي لليبيا .



  فى ذكري الغزو الإيطالي (1) 

طرابلس عام 1910، وتظهر في الصورة سفارتي اليونان وأمريكا
 كانت ليبيا عند نهاية القرن التاسع عشر، هي الجزء الوحيد المتبقي من أملاك الدولة العثمانية فى شمال افريقيا، ولقرب ليبيا من إيطاليا جعلها هدفا رئيسا من أهداف السياسة الاستعمارية الإيطالية التى دخلت مجال التوسع الاستعماري متأخرة ، ولم يصعب على إيطاليا اختلاق الذرائع الواهية لاحتلال ليبيا فاعلنت الحرب على تركيا في 29 سبتمبر سنة 1911م، وبدأ الأسطول الحربي الإيطالي ضرب مدينة طرابلس فى 3 من اكتوبر سنة 1911.


و خلال السنوات الماضية صدرت الكثير من الكتب والدراسات الاكاديمية والمقالات العلمية  على المستوي المحلي او العربي او الايطالي والغربي حول الاحتلال الايطالي لليبيا ، إلا انها ظلت تقتصر على الروايات الرسمية والسرد الجاف الذى يخلو من القصص والشهادات الشخصية للكيفية  التى واجه  بها الليبيين تلك المحنة و ماعاشوه من تجارب مروعة ودموية على يد القوات الايطالية الغازية التى لم تتورع عن القيام بإعمال العنف والمذابح ضد الشعب الليبي ، وقد وجدت ضالتي فى  السيرة الذاتية للباحث التاريخي الراحل محمد محمد الأسطي*(1900-1991) .

فى كتابه "صفحات مطوية" الذى يتضمن سيرته الذاتية التي سبق نشرها في صحيفة الأسبوع الثقافي سنة 1976  فى حلقات متسلسلة  قبل أن تصدر فى كتاب سنة 1983، قدم لنا ذكرياته منذ سنوات الطفولة المبكرة التى شهدت حدث تاريخي جلل سيغير من أقدار الليبيين وليبيا إلا وهو الغزو الإيطالي الذى يترك آثر لايُنسي فى ذاكرة محمد الأسطي الطفل آنذاك و التى رواها  فى الفصل الذى يحمل عنوان ليلة مرعبة هذه مقتطفات منه .

(1)

رافق محمد الأسطي والده إلى مقهي قريب فى فترة عيد الفطر حيث استمع الى احاديث عن قرب عدوان مسلح تزمع إيطاليا القيام به  ، وقد سبق له ألتقاط هذه الاخبار خلال زيارات شقيقه الضابط فى سلاح الفرسان ، حيث اصبحت البلاد تشهد حركة غير طبيعية بعد عيد الفطر مباشرة ..ويتذكر محمد الأسطي عن تلك الفترة الحرجة :" كانت هناك تجري عمليات واسعة لنقل الامتعة والذخيرة الموجودة بمخازن الجيش الى خارج المدينة و فى الأول من  اكتوبر  سنة 1911 جاء أخي الى البيت فى غير موعده ، ليخبرنا عن مشاهدته مع رفقاءه  دخان السفن الحربية الإيطالية ، وعندما عاد والدي اخبرته امي بذهاب اخي سالم لمعسكره فلحقه ليلقي النظرة الأخيرة على ابنه ولكن سالم كان قد غادر إلى غريان ولم يعد منها فقد استشهد وهو يدافع عنها ضد الغزاة ".

فى تلك الفترة كانت طرابلس فى آخر ايامها من الحكم العثماني شهدت حضور الاف البدو من الدواخل تطوعوا لنقل المؤن والاسلحة والذخائر إلى أماكن آمنة خارج المدينة .و كانت طرابلس تشهد حركة كبيرة إذ أخذ الأهالي ينقلون كل ماقد يستفيد منه العدو ، ويقول الأسطي :" اتجهت نحو مدرستي لاشاهد ماصابها ، فدخلت اليها فلم اجد الابواب والنوافذ والمقاعد .كلها حملها الاهالي او هشموها حتي لاتقع فى ايدي الايطاليين.كانت الادوات المدرسية مبعثرة على الارض والكرة الارضية وجدتها مهشمة فوق الارض..خرجت متأثرا  متجها الى البيت ودموعي تسبقني لم اصادف طوال الطريق الا المسلحين من ابناء الشعب ، معظم الدكاكين مقفلة والوالد موجود فى البيت حيث قال لنا ان الانذار الايطالي بقصف المدينة ينتهي اليوم عشية ".

وكانت ايطاليا قد اعلنت قبلها الحرب على الدولة العثمانية حيث سلموا الانذار الى وكيل الوالي احمد بسيم وكان يصادف تاريخ 2 اكتوبر 1911، وقد رفض وكيل الوالي توقيع ورق الاستسلام وقال :" ان هذه البلاد تاريخها ناصع وانا اعرف ان مدافع الاسطول الايطالي اقوي من مدافع قلاع طرابلس ولكن لابد من الضرب والمقاومة حتي لا يقال ان قلعتنا استسلمت دونما مقاومة كي يغفر التاريخ لنا".
فى تلك الأثناء انتقلت اسرة محمد الأسطي من منزلهم بمنطقة الظهرة بزقاق الرخام الى منطقة الهاني وهي تبعد قليلا عن البحر ، ليجدوا عدد من الضباط الليبيين يشرفون على تدريب مجموعة متطوعين ليبيين، وعند الساعة الثالثة بعد ظهر يوم الثالث من اكتوبر تشرع سفن الايطاليين فى قصف المدينة حتي ساعات الغروب لتستأنف القصف فى اليوم الثاني وكانت مدافع القلاع بطرابلس ترد على نيران مدفعية الاسطول الايطالي ونظرا لتفوق الاسلحة الحديثة الايطالية وتهالك مابيد المدافعين الليبيين سكتت استحكامات القلاع الليبية عن الرد لينزل البحارة الايطاليون الى البر صباح الخامس من اكتوبر 1911 .

مع عودة الهدوء المؤقت للمدينة ترجع أسرة الاسطي الى بيتهم فى منطقة الظهرة حيث شهد محمد (11عام ) نزول الجنود الايطاليون فى ميناء الحلفة ، يقول :" كنت اتخيل حال مدرستي التى احببتها ورفاقي فى الصف وقد تشتتوا ومديرنا ومعلمينا الطيبين ، تري هل يجتمع شملنا من جديد بعد ماحدث..لا أظن ..احنيت رأسي وقد غلبتني الدموع".

فى ليلة العاشر من اكتوبر 1911 بدأ اول صدام بين البحارة الايطاليين فى ابي مليانة ودورية من المجاهدين بقيادة الملازم اول اشرف المزوغي .

كانت ساحة سوق الثلاثاء تُستخدم كسوق شعبي يباع فيه كل شىء من الأقمشة واللحوم والحبوب والخردوات وتصدير الحلفا  حيث يأتي سكان الدواخل للبيع والشراء بدء من عشية الاثنين  حتي مغيب شمس يوم الثلاثاء . إلا أن الحال تغير من تاريخ العاشر من اكتوبر حيث غصت  الساحة بالجنود الايطاليين والخيل والبغال والمدافع واكداس الصناديق ، وفى تلك الأثناء تم توزيع منشورات بكميات كبيرة مكتوبة باللغة العربية تتوعد السكان من لايسلم اسلحته لقوات الاحتلال بأبشع العقوبات ، وكان الأهالي تصرفوا بذكاء إذ قاموا بتسليم بنادق الصيد والبنادق القديمة واحتفظوا بالبنادق الحديثة التى تسلموها من السلطات العثمانية قبيل الاحتلال ، وقد انطلت الحيلة على الايطاليين فظنوا ان الاهالي اصبحوا عزل من أى سلاح وبالتالي أعطاهم هذا جو من الثقة والطمأنينة .

(2)

خيمت سحبا ً من الكآبة على سكان مدينة طرابلس ، ولكي يوهم الايطالييون الناس بأن الحالة عادية والإيحاء لهم بان ثمة حاكم ذهب ، وأتي حاكم غيره فكانوا فى الأيام الأولي للغزو لايضيقون على الناس ولايمنعون خروجهم الى الضواحي او مغادرة المدينة ، إلى ان جاء يوم الاثنين 23 اكتوبر 1911 خرج محمد من البيت بحاثا عن اصدقاءه بالمدرسة ، ليجد الشوارع تخلو من الناس الا قلائل يجلسون امام حوانيتهم فى منطقة الظهرة وهناك بدأ محمد يسمع اصوات اطلاق رصاص كثيف فركض عائدا  الى بيتهم ليقابل فى الطريق رجل مسرع يبشر الناس بالقول:" ياجماعة الخير ابشركم بان المجاهدين دخلوا منطقة سيدي المصري وقد شاهدت بعيني علما بهلاله ونجمته مرفوعا  على مئذنة جامع الصومعة الحمراء".

اغلقت الحوانيت ابوابها وخلت الشوارع والازقة من المارة وصار الخروج خطرا ، مع تزايد عدوانية الجنود الايطاليين  المصدومين بالمقاومة ، فكانوا يقتحمون البيوت بحثا عن الاسلحة والذخائر ويطلقون النار على السكان ، ويتذكر محمد مافعلوه بجيرانهم :" لقد قتلوا الشيخ حسين البارودي وابنيه الشابين الطالبين بالمدرسة الرشدية العسكرية أخرجوهم من بيتهم ، قادوهم الى الخلاء المواجه لجامع ضرار وصوبوا بنادقهم الى صدورهم واطلقوا الاعيرة ....وشيخ الحزب فى زاوية سيدي محمد بن الامام وهو الحاج قاسم بن لطيف اطلقوا عليه الرصاص ايضا امام بتيه لمجرد انه رفع صوته فى مواجهتهم وتركوا الجثث غارقة فى دمائها".
المذابح التي أرتكبتها القوات الإيطالية الغازية ضد الأبرياء الليبيين اكتوبر1911

وأما فى الليل فقد قام الجنود الايطاليين باشعال النار فى أكواخ(زرائب) الجاليتين البرناوية والوادوية** لقيام احد هؤلاء بقتل جندي ايطالي .

وتصبح المدينة القديمة مكتظة بجموع اللاجئين من الارياف القريبة والأحياء الواقعة فى اطراف المدينة . رغم صعوبة الحصول على تصاريح للتنقل إذ صار التنقل ومغادرة المدينة يحتاج لتصاريح تمكن السكان من المرور عبر دوريات الايطاليين، وقد نجح والد محمد فى الحصول على تصريح لدخول المدينة والبحث عن مكان للأقامة فيه ، ويفسر الأسطي هذا الأمر بالقول :" طلبنا دخول المدينة سببه تلك الخطورة المتمثلة فى القتل الجماعي الذى يمارسه الايطاليون فى الاطراف ، وهكذا خرجنا من بيوتنا وتركناها بمافيها فلم نحمل معنا إلا مانرتديه من ملابس".

يتبع ..


* ولد محمد محمد الأسطي فى مدينة طرابلس سنة 1900 حيث تلقي تعليمه الأول بها ، ثم واصله فى تركيا ، وعاد الى طرابلس سنة 1919 وعمل بالتجارة ثم ألتحق بالتعليم إلى أن عُين مترجما ً فى دار المحفوظات التاريخية سنة 1955 ، وقد شارك بتأليف عدد كبير من المقالات والبحوث التى نشرت فى العديد من الدوريات المحكمة ، وتوفي فى سنة 1991. 


**الجاليتين البرناوية والوادوية هما اهل النيجر (برونو) و التشاديين(الوادوي)، وتقع اكواخهم فى المكان الذى به فندق قصر ليبيا الآن .