الأحد، 4 مايو 2025

داليدا... حين لا يكفي المجد لاحتواء القلب


في زقاق هادئ من أحياء شبرا في القاهرة، ولدت لولاندا كريستينا جيليوتي يوم 17 يناير 1933، لعائلة إيطالية مهاجرة من كالابريا. كان والدها، بييترو جيليوتي، يعزف الكمان في أوركسترا دار الأوبرا المصرية، بينما كانت والدتها تعمل خيّاطة، تصنع بيديها ثياب الأحلام في زمن لم يكن فيه للحلم مكانٌ واسع.

 

في شبابها، كانت لولاندا فتاة مرحة تعشق السينما والغناء، تعمل كسكرتيرة في شركة أدوية، وتنتظر بفارغ الصبر انتهاء الدوام لتلحق بموعد أحد أفلامها المفضلة. لم تكن تتخيل حينها أن القدر يُخبّئ لها مسرحًا أكبر من أي شاشة، وصوتًا سيطير بها إلى أبعد مما كانت تتوقع.

 

عام 1954، فازت بلقب ملكة جمال مصر، وكان ذلك بداية التحول الكبير. شاركت في أفلام مصرية مثل "قناع توت عنخ آمون"، ولفتت أنظار مخرج فرنسي يدعى ماركو دي غاستين الذي شجعها على السفر إلى باريس لتبدأ رحلة جديدة.

 

من القاهرة إلى باريس: الميلاد الثاني لـ"داليدا"

 

وصلت إلى باريس عام 1955، لا تملك سوى مبلغ صغير واسم لا يكفي لجذب الأضواء. لم تجد المخرج الذي وعدها، وسكنت غرفة متواضعة، وبدأت تغني في ملاهٍ ليلية مقابل أجر زهيد. لكنّ عزيمتها لم تفتر، وظلت تؤمن بأن النجاح سيأتي لا محالة.

 

تعلمت الغناء على يد الموسيقي رولان بيرجيه، وبدعم من الكاتب ألفريد ماشارد، غيّرت اسمها إلى داليدا. وهناك بدأت الحكاية.


عام 1956، غنت في قاعة "الأوليمبيا" العريقة أمام مدير إذاعة "أوروبا 1" لوسيان موريس، الذي أنتج لها أول أسطوانة. لم تحقق نجاحًا يُذكر، لكن أغنيتها الثانية "بامبينو" كانت ضربة الحظ الأولى: 45 أسبوعًا في قائمة أفضل الأغاني، وأكثر من 300 ألف نسخة مباعة حتى 1957. وفى هذه الفترة بدأت صورها بالظهور على اغلفة المجلات . إذ كان لاغنية "بامبينو" تأثير كبير في الجمهور الذي كان يستقبل داليدا بحرارة و حب كبيرين و كانت داليدا تعيد غنائها لهم مرات عديدة نزولاً عند

 رغبتهم.

 

قلب من ذهب.. وجراح لا تندمل

 تزوجت داليدا من لوسيان موريس عام 1961، لكن زواجهما لم يدم طويلًا، فالفن والمشوار العالمي أخذاها بعيدًا، لتعيش حياة مشحونة بالعاطفة والمآسي. لاحقتها المآسي كأنها لعنة، أولها انتحار حبيبها المغني لويجي تينكو عام 1967، بعد فشل أغنيتهما في مهرجان "سان ريمو". كانت تلك أول مرة تحاول فيها داليدا الانتحار، لكنها نُقذت في اللحظة الأخيرة.

 لاحقتها الأحزان مجددًا بانتحار موريس عام 1970، ثم ريشار شانفريه، حبها الأكبر، عام 1982. خسارات متتالية أرهقتها نفسيًا رغم كل الأضواء التي كانت تحيط بها.

 

 النجاح.. لغة تتحدثها بست لغات

 

 على خشبات المسارح، كانت داليدا امرأة أخرى. غنّت بأكثر من ست لغات، منها الفرنسية، الإيطالية، الألمانية، الإسبانية، وحتى العربية وقدمت الكثير من الاغاني التى حصدت نجاح ورواج وشهرة و من بين اغانيها عام 1965 رقصة زوربا وهي اغنية مستوحاة من روح الفلكلور اليوناني حيث حصدت نجاحا كبيرا ً جداً . وفى فترة السبعينيات كانت الصداقة القوية التى ربطتها بالممثل الفرنسي آلان ديلون وراء اغنيتهما كلام ، كلام عام 1973 التى أصبحت واحدة من أشهر أغانيها فى تلك المرحلة .وأما عام 1975 فقد فاجأت الجميع بتوجهها و تأديتها لاغاني الديسكو. فاصبحت رائدة في هذا النوع من الاغاني و كانت اول من سجل اغنية ديسكو فرنسية و هي اغنية "سانتظر" بتوزيع ديسكو 1975. ثم قدمت واحدة من انجح اغاني الديسكو الفرنسية الاثنين والثلاثاء .وفي عام 1977 غنّت أشهر أغانيها في الوطن العربي: "سالمة يا سلامة"، التي أصبحت الأغنية الأولى في 17 دولة، وأُعيد إنتاجها بأربع لغات.

 

         

تقول داليدا في أحد حواراتها:

 "لقد وصلت إلى النجاح بثلاثة أشياء: دراسة الموسيقى بجد، فهم أذواق الجمهور، وروح المغامرةوالحظ أيضًا لم يكن بعيدًا."

 

اليوم السادس.. والليلة الأخيرة

 

في محاولة للتجدد والخروج من الظلال، مثلت عام 1986 في فيلم "اليوم السادس" مع المخرج يوسف شاهين، وأثبتت أن موهبتها لا تقتصر على الغناء فقط. لكنها لم تستطع الهروب من الوحدة والقلق والفراغ، رغم النجاح الكبير الذي حققته.

 

في ربيع 1987، كانت تحضر لعرض موسيقي ضخم بعنوان "كليوباترا"، لكن فوبيا الانتحار التي رافقتها لسنوات تفجرت من جديد. في 3 مايو 1987، أنهت حياتها بمنوم، تاركة رسالة قصيرة: "الحياة لم تعد تحتملسامحوني."

  

 

الوداع الأخير... والخلود الأبدي

 

ودّعتها باريس كواحدة من رموزها. جُسّد تمثالها بالحجم الطبيعي على قبرها في مقبرة مونمارتر، ووضعت صورتها على طابع بريد فرنسي، وخلّدتها أغانيها في الذاكرة الجماعية لشعوب متعددة.

 

غادرت داليدا الحياة، لكنها تركت وراءها إرثًا فنيًا وإنسانيًا باقٍ. كانت فنانة متقدمة على زمنها، تحمل مشاعر صادقة وروحًا شرقية في مظهر غربي. حوّلت تجاربها المؤلمة إلى فن، وجسدت الحنين في أغانيها.