الأحد، 12 أكتوبر 2014

ابيض أو اسود..


by Jessie Willcox Smith


من غرائب حياتنا الثقافية أننا نضطر في أحيان كثيرة إلى أن نسوق الحجج ونحشد الحيثيات دفاعا عن حقنا البسيط والمتواضع في مجرد أن نفهم. من تلك الغرائب أيضا أننا لا نفرق في أغلب الأحوال بين الفهم والتسويغ، بحيث يصعب على البعض أن يستوعب فكرة أن تتفهم موقفا بينما تظل متحفظا إزاءه أو معارضا له. ذلك أن المعادلة الشائعة في أوساطنا الثقافية - والسياسية أيضا - هي: إما أن تكون مع الشيء، وإما أن تكون ضده .



الأحد، 5 أكتوبر 2014

وقفات مع عيد الاضحى فى الذاكرة الليبية ..



يوافق يوم 10 ذو الحجة عيد الاضحى أ و العيد الكبير كما نطلق عليه فى ليبيا بعد انتهاء وقفة يوم عرفة الذى يقضى الناس جزء من نهاره فى التجول فى سوق الماشية من أجل شراء خروف كلا حسب مقدرته المادية ، ليقدم كأضحية صباح يوم العيد ، كما تجتمع معظم العائلات والاسر الليبية يوم عرفة فى بيت العائلة من أجل تناول وجبة طعام يسمونها "طعام يوم الكبيرة" حيث يطبخن ربات البيوت البازين او الكسكسى ، ومع تطور الحياة خلال العقود الاخيرة بدأت تتقلص هذه الاجتماعات لتناول الطعام ، والاكتفاء بقضاء يوم العيد معا .

ولم يكن يكفى الليبيين فى تلك السنوات ماعانوه من ضيق وفقر وفقدان للارزاق بسبب الحرب والاحتلال الايطالى حيث يسجل  الباحث التاريخى الراحل محمد الأسطى فى مذكراته "ورقات مطوية " ذكرياته حول تلك الفترة الصعبة التى عاشها أبناء مدينة طرابلس فى السنوات الاولى لاحتلال الإيطالى فيقول :" .. وعملية شراء الخراف ايضا ً بالنسبة للعيد الكبير تنشط حتى تمتلىء البيوت بالخراف ولكن هذا العام لم يحدث شىء فلا الحجاج اتوا ولا رعاة الاغنام قدموا من البادية لبيع الاضحيات هذه الأمور التى صارت مألوفة وتواترت فى مواسمها اختفت هذا العام ...جاء عيد الاضحى ولم يضح احد كل مظاهر العيد الاخرى اختفت فلم تقم الملاهى والالعاب فى الميادين الملابس الجديدة والحلوى والاراجيح وزيارات الاقارب للمعايدة والتى تتم من جهات نائية بمناسبة العيد حتى هؤلاء لم يحضرمنهم أحد فخطوط القتال اصبحت هى الفاصلة والتى يتوقف عندها وعليها كل شىء ..".

وقد ارتبط عيد الاضحى بذكرى حزينة عاشتها طرابلس تحت الاستعمار الإيطالى فقد اُرتكبت جريمة بشعة بحق مجموعة من سكان طرابلس من المدنيين عندما نُفذ فيهم حكم الإعدام فى اليوم الخامس بعد العيد ويقدم لنا الأسطى رحمه الله فى مذكراته "ورقات مطوية" شهادته على هذه الجريمة فيقول : ".. مرت الايام الاربعة الأولى من العيد على مثل هذه الوتيرة من الكآبة ربما اقتصر المظهر الوحيد المتبقى من العيد على اداء الصلاة فى اليوم الأول ..حالة الكآبة والحزن امتدت حتى ابواب المساجد فى اليوم الخامس عند الصباح لاحت فى الافق طلائع نذر سوداء ..حيث نفذ المستعمر الايطالى احكام الاعدام فى مجموعة من الشباب والشيوخ من سكان طرابلس ممن اصبحوا يعرفوا باسم شهداء سوق الخبزة الميدان الذى اطلق عليه الايطاليون اسم ميدان ايطاليا ولكنه منذ ذلك اليوم اصبح يحمل فى قلوب وذاكرة سكان المدينة اسم ميدان الشهداء وهكذا جاءت تسمية واحد من اهم ميادين طرابلس الآن " .

                                           * * *
لاشك ان حرص الليبيين بتلك الاعوام على مراعاة حال الفقراء فى مجتمعهم وتكاثفهم وموآزرتهم لبعضهم البعض كان له طيب الأثر لتخفيف من وطأة الاستعمار ومايرتكبه من جرائم بشعة بحق المدنيين ومن آثار الحروب العالمية التى دارت رحى بعض معاركها المدمرة فوق الأراضى الليبية ، فيروى الحاج عمران الجلالى حكايات عما يتذكره من احسان وعطف كثير من كبار التجار وأعيان مدينة بنغازى فى تلك الاعياد والمناسبات إذ يقول :".. إن صلة الرحم والمودة التى كانت سائدة فى ذلك الوقت قد خففت الكثير من عوز و حاجة هؤلاء الفقراء ، حيث نرى قبل يوم العيد بيومين او ثلاثة أيام بعض العربات"الكاروات" التى تجرها الخيول وهى محملة بالأضاحى وتقوم بتوزيعها على بيوت معينة من الذين قال الله جل جلاله :" للفقراء الذين احصروا فى سبيل الله لايستطيعون ضربا فى الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ، تعرفهم بسيماهم لايسألون الناس الحافا ً" سورة البقرة الآية رقم 273، وكان هناك عدد من المواطنين أصحاب الفضل لم يقصروا فى جبر خواطر الفقراء مثل السيد شفيق خزام ، والسيد محمد القردوح، والسيد يوسف لنقى ". 

                                             * * *
لم يكن يقتصر عطف أولئك الميسورين على توزيع الاضاحى ، بل يتعداه ليتشارك الناس فى الاطعمة حيث يتبادل سكان الشارع الواحد والأحياء القريبة الأكلات الشعبية كطبق القلاية و الطواجين التى تعُد من اللحوم الطازجة مع الخضار والتوابل فتفوح الرائحة فى الأزقة القديمة من جميع الأفران العتيقة. 

ولم تكن تختلف مظاهر الاحتفالات بعيد الاضحى بمدينة درنة عن بنغازى كما تقول والدتى :".. إذ يجتمع الأطفال مرتدين ثيابهم الجديدة ، فى ساحة الميدان المخصصة لوقوف العربات التى تجرها الخيل(الحناتير) وتؤجر كل جماعة من الأطفال والبنات عربة لتطوف بهم شوارع المدينة الجبلية الصغيرة ، وهم يرددون الأهازيج الحماسية والفكاهية والغزلية ، ويتبادل الجيران طبيخة يوم العيد التى تعُد من لحم الاضحية " .

                                            * * *
"كبشي قدم احتجاج يريد العيد مع الحجاج" ، "كبش العيد امنزل دمعة.. حاير بين خميس أو جمعة" كانت نماذج من رسائل تبادلها المواطنون فى ليبيا قبيل عيد الأضحى عام 2009 م ، ففى سابقة شاذة من أحد أنظمة الحكم بدولة من الدول العربية والاسلامية فى العصر الحديث ، تغيير موعد العيد واعلان الخميس 26/11/ 2009 يوم وقفة عرفات هو أول أيام عيد الأضحى فى ليبا فى مخالفة تعكس شذوذ تفكير وتصرفات القذافى فى حينها ، وقد شكلت هذه الحادثة نقطة تحول كبيرة فى تعامل الليبيين مع الاوامر الرسمية للنظام ، فلم يكتفى الليبيين بتبادل الرسائل النصية عبر الهواتف المحمولة ، ونشرها عبر حوائطهم بمواقع التواصل الاجتماعى كالفيسبوك وتويتر، وإضافة إلى الرسائل والنكات الساخرة من قرار النظام فى حينها ، صدر عن علماء دين ليبيين كالشيخ أحمد القطعانى ، و د.الصادق الغريانى ، والشيخ ونيس الفسى وآخرين ، عدد من الفتاوى تخالف توجه الدولة، حيث أفتوا بعدم جواز  مخالفة وقفة الحجيج بعرفة ، والتأكيد على أن الخميس هو يوم وقفة عرفات، وأن الجمعة هو يوم عيد الأضحى، وقد تحول عيد أضحى عام 2009 م إلى اكبر اعلان لعصيان مدنى سُجل فى تاريخ ليبيا منذ العام 1969 م ، إذ امتنع الناس عن أداء صلاة العيد المعلنة ، و واصلوا صيامهم يوم وقفة عرفة ، وتجوالهم فى أسواق الماشية لشراء أضاحى لذبحها يوم الجمعة ، كما سجلت كاميرات القناة الحكومية صلاة العيد يوم الخميس  بمساجد تكاد تخلو من المصلين ، بينما التقطات كاميرات الأجهزة الهواتف المحمولة ساحات ومساجد صغيرة تغص بالمصلين بيوم الجمعة.


ورغم الاوامر المشددة للأجهزة الأمنية بحصر المخالفين من أئمة ومؤذنين المساجد والمصلين من المواطنين إلا ان اتساع مساحة الرفض الشعبى للاعلان الرسمى للنظام ، أظهر صعوبة القبض على غالبية الشعب الليبى فى حينها ، مما دفع بالنظام الحاكم بغض النظر عن الاوامر الصادر ، وعدم التجرأ على تنفيذها.                           


                                               * * *
نتيجة لتردى الاوضاع الامنية فى بنغازى ومدن ليبية أخرى ، وسقوط الكثير من الضحايا بأرقام تبعث على الألم والحسرة ، خفت موجة الحماس لدى الكثير من الليبيين للاستعداد لعيد الاضحى هذا العام رغم المحاولات لدى البعض من أجل المحافظة على تقاليد وطقوس هذا العيد.

أتمنى أن يعود علينا العام القادم ووطنى ينعم بالأمن والاستقرار والسلام
   

الجمعة، 3 أكتوبر 2014

مراسم وتقاليد رحلات الحج فى الذاكرة الليبية ..

لوحة مرسومة للكعبة  ومدينة مكة فى العام 1700م من قبل مستشرق اوربى

يعيش المسلمين فى أرجاء الارض  مشاعر روحية موحدة خلال موسم الحج فى كل عام ، وتصل تلك المشاعر لذروتها خلال الايام العشر الاولى من شهر ذي الحجة ، ففريضة الحج عند المسلمين تتجاوز الأداء الشكلى لمناسك الحج ،إلى هدف اعمق يتمثل فى تحقيق استقامة اخلاقية فالحج بمثابة تدريب سنوى على تحسين وتهذيب أخلاق المسلم من خلال مراجعة أى انحراف فى سلوك المسلم كترك الجدل العقيم ، والصبر، و الترفق بالآخرين ، و خوض غمار الحياة بروح شُحذت بقيم سامية وأخلاق حسنة عند العودة لمجتمعه .


                                           * * *

 ولايختلف الليبيين عن باقى الشعوب المسلمة فى التشوق لأداء هذه الفريضة ، ولاتختلف مشاعر عليا القوم عن عامة الناس فى التطلع للقيام بالحج وخوض غمار هذه التجربة الروحية ، يترك لنا قنصل البندقية فى طرابلس الكونت بوبليش تقرير مفصل حول السفير الليبى الحاج "عبدالرحمن آغا"  احد أهم الشخصيات السياسية الليبية فى عهد يوسف باشا القرمانللى ،حيث يسلط الضوء على جانب فى شخصية السفير آغا مظهرا شديد حرصه على أداء فريضة الحج للمرة الثانية فى حياته ، رغم اقتران لقب حاج بالسفير عبدالرحمن فى الوثائق الرسمية من العام 1763م ، وقد كتب عنه الكونت بوبليش فى تقريره حول هذه المسألة "الباشا يحبه فى لطف لعلمه بأنه مسلم تقى" ولاشك أن العودة للحج فى تلك الأزمنة لايكون إلا بحافز دينى عميق ربما يشوبه مسحة تصوفية بالنسبة لرجل يمتهن السياسة،  تاركا منصبه كممثل للدولة النمساوية ولتوسكانا ببلاط الاسرة القرمانللى بطرابلس ، وتدفعه إحساساته ومشاعره الورعة إلى القيام بهذه الرحلة الشاقة ، ويذكر بوبليش فى التقرير حول رحلة الحاج عبدالرحمن ".. أستئذن الباشا ، فى زيارة الأراضى المقدسة فأذن له ، فأعد عدته لذلك ، وأدى ماله وما عليه من حقوق ثم صحب أهله وولده ، وركب باخرة فرنسية قاصدة ميناء الإسكندرية فى شهر يناير 1767م ".


                                                      * * *
الميناء بطرابلس أواخر العهد العثمانى الثانى
   وقد حظيت هذه الفريضة باهتمام خاص واستعداد معين تختلف تفاصيله من مدينة لأخرى ، وأن  ظل الناس فى الأزمنة القديمة محافظين على نسق واحد تسير عليه تلك الاستعدادات، فكان سفر الحجاج إلى بيت الله فى كل عام من الأحداث البارزة فى مجتمع مدينة بنغازى ، حيث يستغرق الراغبين فى أداء الفريضة فى الإعداد لهذه الرحلة أشهرا كثيرة وتظل بيوت الراغبين فى الحج مفتوحة للزوار والمهنئين وفى نشاط مستمر من أجل إعداد ملابس الإحرام والملابس الأخرى التى يرتدونها بالأراضى المقدسة، بالأضافة لاعداد الاطعمة التى سيحملها الحجاج فى رحلتهم فينهمكن النساء فى إعداد الكسكسى والقديد ، ويتذكر الباحث التاريخى محمد الأسطى رحمه الله فى مذكراته المنشورة تحت عنوان "ورقات مطوية " حول الاستعدادات التى تسبق القيام بهذه الرحلة فيقول :" .. نحن الآن فى اواسط ذى القعدة من عام1329 هجرى الموافق نوفمبر 1911م فى الماضى هذا الوقت يعنى نشاطا ً فى الأسواق ، فالحجاج الذين يتوجهون لاداء فريضة الحج عن طريق البحر ، يتهيأون للسفر فى هذا الوقت ..وبالتالى يشترون احتياجاتهم من الاسواق ..الحجاج ليسوا قاصرين على الحجاج الليبيين فمن بنيهم حجاج تشاد وتونس واقطار افريقية اخرى..".

كان الحجاج الليبيين برفقة الحجاج من الاقطار المجاورة يسافرون إلى الإسكندرية عن طريق البر أوعن طريق ركوب البحر حيث يواصلون رحلتهم من الإسكندرية إلى جدة .

                                                * * *   

 أثناء الفترة الاستعمارية كانت سلطات الاحتلال تحاول مغازلة المشاعر الدينية لليبيين فقامت الحكومة الإيطالية فى العام 1938 بالاتفاق مع الحكومة الإسبانية المحتلة لجزء من المغرب على نقل حجيج البلدين على ظهر باخرة إسبانية تنطلق من طنجة لتنقل الحجاج المغرب الإسبانى البالغ عددهم 700 شخص ، ثم تعرج على طرابلس و بنغازى لأخذ الحجاج الليبيين الذى لم يزيد عددهم فى ذلك العام عن 350 شخصا ً، وفى أثناء توقف الباخرة الإسبانية فى ميناء  بنغازى قام الحجاج المغاربة بالنزول الى البر من أجل القيام بدفن أحد الحجاج المغاربة الذى توفى قبل دخول الباخرة ميناء المدينة ، ويقدم الدكتور وهبى البورى توثيق تاريخى هام لذلك الحدث حيث يقول : ".. انتشر الخبر فى المدينة أن حاجا مغربياً قد  انتقل إلى رحمه الله وأنه سوف يدفن فى مقبرة سيدى أعبيد فقام عمال الميناء بمايجب عمله فى هذه الحالات ونزل إلى البر عدد كبير من وجهاء المغاربة الذين كانوا على ظهر الباخرة للمشاركة فى الجنازة التى اخترقت شوارع وأسواق بنغازى وكان عدد المشيعين يتزايد بشكل كبير حيث كان أصحاب المتاجر يغلقون متاجرهم وينضمون إلى المشيعين وبعد الانتهاء من مراسم الدفن أصر أهل بنغازى على استضافة إخوتهم المغاربة الذين نزلوا إلى البر لتشييع جنازة مواطنهم ووزع الضيوف على عدة منازل حيث تناولوا العشاء وقضوا سهرة طيبة ثم رافقهم المضيفون إلى الميناء وكان من بين الضيوف المغاربة الحاج أحمد الركينة ومحمد الناصرى وعدد من أعيان ووجهاء منطقة المغرب الأسبانية..".
سفر الحجاج فى اواخر الاربعينات من ميناء بنغازى

  كان توديع الحجاج من الأيام المشهودة فى المدن الليبية  حيث يزدحم الميناء بأفراد العائلة أو القبيلة و بالأقارب والمعارف إذ كانت لرحلات الحج بالأزمنة القديمة مخاطر ومصاعب جمة ، فبعض الحجاج قد يموت ويدفن بالأراضى المقدسة أو فى الطريق العودة او الذهاب ، وكانت مظاهر التوديع بمايصاحبها من مشاعر جياشة ، كما تمتلىء اللحظات الأخيرة بالوصايا من الطرفين فالحاج يوصى برعاية أهل بيته ، والمودع يوصى الحاج بالدعاء له ، ونجد مجلة ليبيا المصورة تقدم وصفا لذلك اليوم فى أحد اعدادها " لقد عطل المسلمون أعمالهم وحركتهم وخرجوا زرافات إلى الميناء لتوديع الحجاج أوقل ليودعوا عندهم ماانطوت عليه أفئدتهم من الاشتياق لزيارة البقاع المقدسة والحب للنبى العظيم ، لقد رأيت أغلبهم دامعى الأعين منهم من يبكى حبيبه ومنهم من يبكى لعجزه عن قضاء هذا الفرض " .

ومن العادات المتبعة فى المجتمع الليبى فى توديع الحجيج إلى بيت الله الحرام ، توجيه الدعوة لكل افراد العائلة والقبيلة و الجيران والمعارف إلى حفل عشاء او وليمة غداء تطهى فيها الكسكى او البازين ، وتقدم الحلوى الى الاطفال ، ويخرج اهل الحاج واقاربه و جيرانه أو افراد قبيلته لتوديعه مع باقى ركب الحجاج حيث يسيرون معهم مسافات قد تصل الى نصف يوم  فى القرى والنجوع خارج المدن الساحلية .
                                            

الملك إدريس فى لباس الإحرام ويرى فى استقباله الملك سعود وولى عهده الأمير فيصل والجدير بالذكر أن الملك إدريس استقل الباخرة من طبرق فى عام 1962 رفقة فوج حجاج برقة ، وقفل راجعا صحبة فوج حجاج طرابلس وقد تفضلت الحكومة بترجيع نصف ثمن تذكرة السفر إلى الحجاج لهذه الرحلة بمناسبة مرافقة الملك لهم وقد طلب الملك من الحكومة استخراج وثيقة حج له أسوة بالحجاج

  قام الملك ادريس السنوسى ربيع عام 1962 م بإستدعاء رئيس الوزراء "محمد عثمان الصيد"  ذلك لاعلامه بقرار الملك القيام بأداء فريضة الحاج ذلك العام ،  وكانت الدولة الليبية تستأجر كل عام من شركة يونانية للملاحة باخرة ضخمة تسمى " ماريانا لاتسى " لنقل الحجاج الليبيين ، ويسرد لنا السيد الصيد فى مذكراته حول ماقامت به الحكومة الليبية من ترتيبات وتقديرات من أجل تلك الرحلة ، فيذكر رئيس الوزراء محمد الصيد ان الملك استدعه من أجل طرح أسئلة تتعلق بتكاليف استئجار ثلاث غرف بالباخرة ، طالبا من الحكومة خدمة وحيدة أن تكو التقديرات دقيقة لامجاملة فيها ، فيقول الصيد :- ".. سألنى عن تكاليف ثلاث غرف بالباخرة ، قلت له أن الدولة ستتكفل بمصاريف الحج ، لكنه رفض مشيرا إلى أنه ذاهب ليحج لنفسه وليس لليبيا لذلك لابد ان يكون كل شىء على نفقته الخاصة .. وقد كلفت وزير المواصلات بمهمة وضع تقديرات تكلفة استئجار الباخرة ، والتعديلات التى ستدخل على الغرف الخاصة التى طلبها الملك ، وابلغت الملك بالمبلغ واصر ان يدفعه من حسابه الخاص وفعلا تم ذلك ، وقبل سفره سلمنى عشرة آلاف جنيه طلب منى تحويلها الى سفيرنا فى السعودية لاستبدالها بالريال السعودى لكى يسلمها له فى الباخرة عند وصولها الى ميناء جدة .فاقترحت عليه ان تتولى السفارة الليبية تسليمه هذا المبلغ ، لكنه رفض فلبيت رغبته ، وقد رافقه البوصيرى الشلحة خلال الرحلة ، وهكذا سافر الملك الى الحج يوم 3مايو 1962 واحتفت به المملكة العربية السعودية احتفاء مميزا ً..".

الملك إدريس فى حفل استقبال كبار الحجاج والبعثات
الرسمية فى مكة والذى يقيمه العاهل السعودي كل عام

 و تتكرر مظاهرالترحيب والحفاوة وانتظار وصول الحجاج بشوق كبير حيث يخرج الاهل والاقارب والمعارف لاستقبالهم فى الميناء او على مشارف قراهم ونجوعهم ، حيث تنتظرهم سلسلة ولائم جديدة ، غير أنه مع التغيرات التى طالت المجتمع الليبى من نواحى اقتصادية واجتماعية وتراخى الروابط الاسرية و العائلية بدأت تقل مظاهر الاحتفال بالحجاج كما كانت قبل ثلاثين عام ، وبرأيى الشخصى فهذا التغير لايقتصر على الليبيين وحدهم ، ان امتد الى باقى المجتمعات العربية الأخرى التى اقتصرت فيها الاحتفالات على اضيق نطاق .


                                         * * *
كنت هذا العام اراقب مظاهر الاحتفال بذهاب الحجاج الى بيت الله الحرام ، وادون ملاحظاتى التى اشارك والدتى فيها ، فلم اسمع أى مواكب يزف أحد حجاج الحى كما تعودنا سابقا ، ولم ارى الاعلام البيضاء الصغيرة التى تعلو البيوت معلنا عن ذهاب حاج من ذلك البيت او تلك الأسرة ، ولم نتلقى أى دعوة لحضور وليمة غداء او عشاء كما كان يحصل سابقا ً ، فقد أصبحت تلك الولائم مؤجلة الى مابعد عودة الحجيج ، والبعض ألغى تلك العادة فى اقامة وليمة اقتصادا فى المصاريف بسبب تكلفة رحلة الحج لكل فرد .
بالرغم من أننى لم اكن من النوع الذى يحب او يحرص كثيرا على حضورالمناسبات الاجتماعية ، إلا بما يتعلق بعائلة والدى او والدتى ، لكنى لم استطع ان امنع نفسى من مراقبة التغيرات التى أصبحنا نعيشها عام بعد اخر ، خاصة اندثار بعض العادات بايجابياتها او سلبياتها.
 

الباخرة اليونانية ماريانا لاتسى
و يرتبط الحج فى ذاكرتى العاطفية بحكاية لكيفية اختيار والدتى تسميتى (إيناس) فهى اختارت هذا الاسم لانها شعرت بالأنس لسماعها خبر سلامة ونجاة جدتى ومن معها من افراد العائلة من حريق شب فى خيام الحجيج فى ذلك الموسم ، وعودتهم سالمين إلى أرض الوطن ، ، ولاتمل والدتى من إعادة سرد ذكرياتها حول رحلة الحج تلك  فتقول عن ذلك" لقد قمنا بإعداد وجبة غداء لافراد العائلة وللجيران وللمعارف حتى يتسنى لهم توديع جدتك وخالتك وزوجها ، ولطلب المسامحة تماشيا  مع الاعتقاد الشعبى حين ذاك أن الحاج قد لايرجع مرة أخرى فرحلات الحج قبل عقود ثلاث لها مخاطرها من غرق الباخرة او تفشى مرض او عدوى او بسبب كبر سن الحاج وعدم قدرته على تحمل مشاق الرحلة الطويلة المرهقة ، لم يقتصر الأمر على تناول الطعام ، فقد اقمنا حفلة صغيرة لنساء العائلة اللائى رددن الأغانى الرائجة فى مثل هذه المناسبة، ثم رافقناهم حتى ركبوا السفينة "ماريانا" من ميناء طبرق التى اتجهت بهم الى الاسكندرية ، ثم عبروا قناة السويس إلى البحر الأحمر حيث رست الباخرة فى ميناء جدة ، وكان بانتظارهم المطوف الذى يتولى مهام مرافقة الحجاج وارشادهم طوال موسم الحج " .

                                          * * *
لم يكن الاحتفال بالحجاج  يقتصر على اقامة ولائم الطعام فقط ، إذ كان يصاحب الاستعداد للحدث فى بيت الحاج اهازيج واغانى يرددها الاطفال والكبار منذ الاعلان عن قرار احد افراد الاسرة الذهاب للحج ، من بين تلك الاهازيج (بابور الحجاج تكلم       صلى الله عليه وسلم ) فور سماع الاطفال لأى صوت مرتفع أو غريب إذ يعتقدون بأنه صوت الباخرة التى تقل الحجيج إلى الأراضى المقدسة ، كما كانت اسمع والدتى فى مواسم ذهاب الحجيج الى بيت الله الحرام تردد واحدة من الاغانى التى يرددنها عادة النساء فى الحفل المقام لتوديع الحجيج  (ياباخرة يامريانا   يرعاك المولى سبحانه ) .

كانت مناسبة الاحتفال برجوع الحجيج فرصة عظيمة للقاء الاقارب وتجمع افراد العائلة لايام حيث يتاح للإطفال الحصول على هدايا وحلوى يجلبها الحاج معه لاقاربه وافراد العائلة والاصدقاء ، بالاضافة لحصول الأطفال على  فرصة اللعب وترديد الاغانى والاهازيج معا ، يتجمعن البنات الصغيرات ممسكات ببعض فى صف واحد متراص بالعرض ثم يسرن إلى الأمام وهن يضبط الإيقاع بخبط أرجلهن على الأرض منشدات :( دج دج دج / باتى عدا الحج / جاب لنا لوبان/ فرقنا على الجيران / طويبة طويبة طويبة / كيف ياحبة الرطيبة / قسمنا على العروس / عطتنا عشر قروش / قسمنا على العزوز / ضربتنا بالعكوز).

 وتقدم لنا الدكتورة سكينة بن عامر فى كتابها طيارة ورق شرح لمعنى هذه الاهزوجة فتقول : "وتعنى هذه الكلمات : إن أبى ذهب لأداء فريضة الحج وأحضر لنا معه (لوبان) هدية من الأراضى المقدسة ، فأهدينا منه الجيران ، ولأنهم كثر فلم نقدر على إعطائهم سوى قطعة صغيرة مثل حبة الرطب ، وعندما منحنا العروس بعضا من هذا اللوبان فرحت به وأعطتنا عشرة قروش مكافأة منها ، إما تلك المرأة العجوز فقد اعتقدت بأننا نسخر منها لأنها لاتملك أسنانا لمضغ اللوبان ، لذلك ضربتنا بعصاها التى تتوكأ عليها) والمتأمل لهذا البناء المتين والسياق المتماسك يتأكد بأن هذه الأبيات من تأليف شاعر مجهول أراد من خلالها غرس محبة الجيران وتبصيرنا بحقوقهم التى أمرنا الله سبحانه وتعالى بمراعاتهم  وأوصانا رسولنا الكريم بها".
 


 صور لرحلة الملك ادريس السنوسى الى الأراضى المقدسة عام1962، وجانب من تغطية الصحف الليبية لمراسم وتقاليد توديع الحجاج فى سنوات ماقبل الانقلاب 
 

إحدى الصحف السعودية تنشر أخبار مفصلة عن وصول ملك ليبيا رفقة 
الحجيج الليبى على متن الباخرة ماريانا سنة 1962 م الموافق 1381 هجرية


     حجاج ليبيا الميامين يصعدون الى الباخرة ماريانا لاتسى   

وزير الداخلية فى حفل تنصيب شيخ الركب 1969م/1389 هجرية 
محافظ طرابلس والمفتى الشيخ القلهود فى حفل تسليم البرنس الى شيخ ركب الحجيج الليبي ،والذى يتم اختياره بناء على قرار من رئيس مجلس الوزراء وموافقة المحكمة الشرعية الابتدائية من بين القضاة أو الوعاظ أو الوجهاء كل عام خلال احتفالات المولد النبوي وفى هذا العام 1389هجرية تم تزكية الشيخ "منصور البشير الضبع" من طرابلس ليكون شيخا للركب.

وزير العمل والشئون الاجتماعية عبد المولى لنقى والوزراء وكبار الشخصيات
فى توديع الحجيج لموسم 1964م / 1383 هجرية.




خلال رحلة الحجيج ذهابا وإيابا من كل عام يتم تبادل
برقيات التمنيات والتهانى بين الحجاج الليبيين والملك

       أعضاء البعثة الليبية مع الملك فيصل سنة 1968م

*  قمت بكتابة هذا الموضوع قبل موسم حج عام 2013 ميلادى والاحتفاظ به فى جهازى