الثلاثاء، 6 فبراير 2024

الزعيم يحلق شعره.

 

صدرت رواية الزعيم يحلق شعره للروائي المصري إدريس علي في العام 2009 مثيرا حالة من الغضب الشديدة لدي النظام الليبي الذي يسعى عبر رجاله بمصر لمنع صدور الرواية - حسب تصنيفها بوقتها - مع تقديم عرض مالي مغر لأحمد الجميلي صاحب دار نشر وعد كي لايمضى في نشرها  إلا أن رفضه قاده للسجن والملاحقة وإقفال دار النشر لفترة ومصادرة الرواية من قبل الأجهزة الأمنية المصرية رغم نفي الجهات المسؤولة حينها حدوث هذا الأمر . وكما واهتمت حينها المواقع الليبية التى تُدار من الخارج بخبر المصادرة ومحتوى الرواية التي اختفت من المكتبات ولم يُعاد نشرها والترويج لها إلا بعد سقوط نظام مبارك بمصر آخر العام 2011 .

 وتدور أحداثها  في منتصف السبعينيات فى طرابلس التي تشهد تحولات ككل البلد في أعقاب خطاب القذافي في زوارة فى ذكرى المولد النبوي الشريف التي صادفت في ذلك العام تاريخ 15 أبريل 1973 إذ تفاجئ أعضاء مجلس قيادة الانقلاب بخطاب القذافي أمام الجماهير بمدينة زوارة ، الذي تجاهل فيه موضوع الاستقالة المتفق عليها بين أعضاء المجلس ، و الاتجاهل لوضع دستور دائم للبلاد واتخاذ الترتيبات لعودة الحياة الطبيعية ، فقد كانت البلد حتى ذلك التاريخ تُتخذ فيها القرارات وتُسن القوانين بموجب الإعلان الدستوري، الذي أُبطل العمل به بعد قيام القذافي بإلقاء ماأصبح يعرف بخطاب زوارة و الذى أعلن فيه ماأطلق عليه” الثورة الشعبية” بنقاطها الخمس، التى على رأسها وأخطرها “إلغاء القوانين” السائدة فى البلاد يومذاك. ومنذ ذلك الخطاب توقف القذافي عن الإشارة للدستور الدائم ومجلس الشعب والانتخابات ، بل وحتي الحديث عنها ، حيث حل محلها شعارات ومصطلحات ومفاهيم جديدة مثل”الثورة الشعبية” والسلطة الشعبية” والثورة الثقافية” وغيرها. و ترتب  على استخدام “ الشرعية الثورية “ كغطاء ومبرر للتدخل فى كافة شؤون الحياة الليبية وعلى الصعيدان الداخلي والخارجي نتائج وخيمة .

 في ظل هذه الظروف كان مقدم (إدريس علي) الكاتب المصري ذا الأصول النوبية للعمل فى طرابلس هربا من ظروفه المادية الصعبة إذ ضاقت عليه الحياة فى القاهرة وتحت إلحاح زوجته بضرورة إيجاد حل لأزمتهم الاقتصادية الخانقة فالكتابة لا توفر لقمة العيش لهذا قرر أن يجرب السفر والعمل فى بلد عربي فاختار ليبيا فى تلك الفترة لتوفر سوق عمل كبير للعمالة المصرية بعدما قام القذافي بفتح الحدود وأعلن عن استقبال المصريين بالبطاقة فقط و دون تأشيرة. سافر إدريس محملا بعشرات التوصيات من كتاب وصحفيين مصريين لزملائهم فى ليبيا(مصريين وليبيين) .  فى ليبيا نصحه صديقه الكاتب محسن الخياط ألا يعمل في الإعلام الليبي كي لا يتورط  مع النظام الليبي وتصبح العودة لمصر صعبة ، فاختار أن يكون عامل بناء قبل أن يحصل على وظيفة صغيرة كعامل شباك تذاكر في إحدى صالات السينما.

 يصف إدريس المناخ العام بطرابلس وقت وصوله فى توقيت سىىء فى مارس 1976 "لم أشهد فى حياتي حشودا بهذه الكثافة مظاهرات فى كل مكان ..صراخ ، ووعيد وكلها فى الغالب موجهة ضد مصر" إذ بدأت حملات القدح والسب والتشهير بين اعلام البلدين  بعد قيام السادات بزيارته الشهيرة إلى اسرائيل التي سرعانما أشعلت  بين الجارتين حربا قصيرة محدودة تركت بأثارها السيئة على العلاقات بين البلدين .

 كما يرصد إدريس فى عمله هذا الآثار الكارثية لمقولة شركاء لا أجراء على مناخ العمل داخل السينما التى أصبحت ملكا للعاملين بها بدل من مالكها بشير الغرياني وهو من المستثمرين فى قطاع السينما فى ليبيا منذ الاربعينات  الذى تحول من مالك لعضو باللجنة الشعبية التى تدير المؤسسة والمكونة من خمسة أفراد هم موظفين وعمال سابقين لدي الغرياني الذى يتلاعب بالمستندات المالية فى سبيل الحصول على حقوقه المادية كمالك سابق أصبح يعيش مناكفات يومية بينه وبين عبدالله عامل النظافة الذي أصبح عضو مجلس إدارة مثله وفقا للعدالة الاجتماعية على طريقة الكتاب الأخضر. 

جريدة طرابلس الغرب عام 1946

 كما يتناول الكاتب الألاعيب التى شهدها داخل أروقة المؤسسة التى عمله بها فى الفترة مابين 1976-1980 و تأثير القرارات العشوائية للقذافي على حقوق وحريات الليبيين وغير الليبيين من مستثمرين عرب أو أجانب فيشير لما جري لرجل الاعمال الفلسطيني خليل الجاعوني مالك لسلسلة دور عرض فى طرابلس وبنغازي الذى خسر استثماراته فى ظل تطبيق مااحتواه الفصل الثاني من الكتاب الأخضر من افكار فى الشأن الاقتصادي تمت بموجبه انتهاك حقوق الملكية الخاصة للتجار ورجال الاعمال وكبار الصناعيين وأصحاب المشاريع الخدمية . لتظهر مع نهاية السبعينيات  بوادر الفشل والتأزم الداخلي من عجز عن خلق تنمية حقيقية وإهدر الأموال الطائلة على مشاريع اقتصادية غير ناجحة ، إضافة إلى قصور خدمات الدولة والتضييق على المواطنين فى عيشهم ورزقهم مما يدفعهم للألتفافة على النظام بشتي الطرق ومختلف الأساليب.

 و رواية الزعيم يحلق شعره يستقي عنوانه من إشارة القذافي فى أحد خطاباته لعدم ضرورة مهنة الحلاق فى المجتمع الجماهيري مقترحا على الشعب الليبي أن يحلق كل فرد لنفسه ، ولتقوم اللجان الثورية مباشرة بعد انتهاء الخطاب بتنفيذ ما كان يعُرف بتوجيهات الأخ قائد الثورة بسحب تراخيص محالَ الحلاقة وخصوصا فى الشوارع الرئيسية مع استمرارها فى الأحياء الشعبية بشكل سري مع عدم منح تراخيص الإقامة الحلاقين الجدد وترحيل من تنتهي إقامتهم .

 و يرصد لنا إدريس عبر صفحات الكتاب تحول المسؤولون الثوريون إلىٰ مراكز قوي، واستشراء الفساد والنهب المنظم، والتلاعب بالميزانيات الضخمة التى تتسرب لجيوب القلة من رجال العهد الجديد ، وكيف تصبح الوشاية والاعتقال لأتفه الأسباب هي القانون الذى تنتظم فيه حياة الليبيين على عهد القذافي وكيف كان لعناصر اللجان الثورية إدوار مهمة ورئيسية فى تنفيذ هذه القرارات العشوائية التى يصدرها القذافي وتسمح بوضع اليد على أملاك وعقارات ومبان للمواطنين .

 كما يتناول إدريس أوضاع العمالة العربية ومعاناتهم فى ليبيا خلال تلك الفترة من عقد السبعينيات واستعدادهم للتنازل عن كرامتهم وممارستهم للخداع والغش فى سبيل إنقاذ أنفسهم من أوضاع اقتصادية سيئة فى بلدانهم مع تعرضهم للعنصرية والاستعلاء من الليبيين خاصة فى  فترة إعلان السادات الحرب على ليبيا، و ما تعرض له المصريون من انتهاكات وإهانات في تلك الفترة .وحكاية البطمة التى تمني الليبيين أن يستخدمها العقيد من أجل الانتصار على السادات ، فيذكر إدريس أن حكاية البطة خلفيتها أكذوبة كبيرة عاشها الليبيين بعد آخر استعراض للجيش فى احتفالات الفاتح عندما مرت أمام المنصة منصات إطلاق صواريخ أرض أرض وصفها المذيع بأنها الصواريخ العابرة للقارات وتستطيع الوصول إلى أى مكان فى العالم بينما الحقيقة أن مداها لايزيد عن مائة وخمسين كليو فلو أطلقت من طبرق ستسقط فى السلوم .وليعرف الليبيين بنهاية حربهم القصيرة مع جيرانهم أن العقيد كذب عليهم

 و لزعيم يحلق شعره لايمكن تصنيفه كعمل روائي فقط، بل هو أقرب لرواية سيرية فالراوي هنا يقوم برواية أحداث حياته التى يتطابق فيها السارد مع الشخصية من خلال استخدامه لضمير المتكلم فى النص ، واستعمال الاسم فى الشخصية المحكية نفسه والذى هو نفس اسم المؤلف على الغلاف ، و أن أضفي الصبغة الأدبية على الوقائع والأحداث اليومية التى عاشها خلال السنوات الأربع فى ليبييا مستعملا لغة سهلة مباشرة مازجا بين الفصحي والعامية المصرية والليبية مضمنة كل الشتائم والكلمات البذيئة فى النص كي يضع قارئه فى الجو النفسي العام الذى عاشه المؤلف مع غيره من عمال مغتربين.

 الكاتب إدريس علي ولد عام 1940 في النوبة بجنوب مصر ورحل في نوفمبر 2010، ومن أهم رواياته دنقلة والنوبي، وانفجار جمجمة، ومشاهد من الجحيم.

السبت، 3 فبراير 2024

جدتي ..مذكرات أرمنية - تركية ناجية من مذابح الحرب العالمية الأولي


"لا تخافون من الأموات، أيها الأطفال، فلن يتمكن أحد من إيذائكم بعد الآن. الشر يأتي من الأحياء، وليس الأموات."عبارة لطالما رددتها “سحر” جدة فتحية جتين الكاتبة والناشطة الحقوقية التركية .

 لم تكن تعرف فتحية أن للجدة تاريخا مجهولا لها وللأحفاد فقد عرفت جدتها كمسلمة متدينة وربة بيت سعيدة وأم بارعة فى تربية أبنائها ورعاية أحفادها ولكن مع التقدم فى السن ، عاشت اكتشافا شكلا صدمة نفسية كبيرة بالنسبة لها بعد أن باحت لها جدتها بأسرارها أخبرتها بأصولها شيئًا فشيئًا.جدتها لم تولد سحر بل هيرانوش غازاريان لعائلة مسيحية أرمنية. هاجر ذهب والدها مع أخويه الأكبر لأمريكا من أجل العمل . وكانت هيرانوش طفلة جميلة سريعة التعلم وذواقة للموسيقى وبدأت تذهب للمدرسة بقريتها عام 1913 وعندما تعلمت الكتابة والقراءة كانت تكتب رسائل إلى والدها وأعمامها تطلعهم على أخبار العائلة التي ظلت بالقرية حيث عاشت هيرانوش طفولة سعيدة فى مناخ اجتماعي صحي حازت فيه هيرانوش الطفلة الموهوبة إعجابا كبيرا . و فى عام 1915، هاجم الدرك التركي قرية هرانوش، حيث أخذوا الرجال والشباب وتركوا النساء والأطفال وتم ذبح الرجال وإلقاء جثثهم في نهر دجلة، ثم عادوا  من جديد وأجبروا النساء والأطفال على السير في مسيرة الموت، وأولئك الذين لم يتمكنوا من مواكبة ذلك قُتلوا بحراب الدرك. تم اختطاف هيرانوش وكانت تبلغ العشر سنوات حينها من قبل جندي تركي لم يكن لديه أطفال وتم تغيير اسمها ودينها وكبرت لتصبح زوجة مطيعة ومسلمة متدينة. ورغم ذلك كان تتم الإشارة إلى هيرانوش وأمثالها على أنهم "بقايا السيف"، وكانوا يعاملون كخدم منازل أو رعاة لدي العائلات التركية التى تقاسمت أطفال الأرمن .

 وقد أخبرت هيرانوش حفيدتها لأنها أرادت إعادة الاتصال بأي من أفراد عائلتها الذين نجوا، وكانت والدتها قد تم ترحيلها مع من تبقين حيا إلى مدينة حلب ، أما أخوها خورين فقد تم أخذه من قبل دركي تركي من قرية أخرى وأصبح اسمه أحمد وعمل راعي للمواشي وقد نجح خورين فى العثور على آثار شقيقته هيرانوش وظل يتردد عليها سر حيث اكتشفا مصير والدتهما التي تمكنت من التواصل مع الأب ،  الذى جاء من أمريكا إلى حلب للبحث عن أولاده وبحسب رسالة وصلت لخورين كان والدهما موجودا بحلب ويرغب فى تهريبهم بمساعدة مهربين على الحدود السورية - التركية إلا أن هيرانوش التي كانت زوجة وأما لطفلين فى ذلك الوقت رفض زوجها مغادرتها فرحل خورين وحده باتجاه حلب ثم إلى أمريكا برفقة والدهما . عاشت هيرانوش حتى عمر 95 عامًا لكنها لم تر أيًا من أفراد عائلتها مرة أخرى. قامت فتحية برحلة إلى أمريكا بعد وفاة جدتها لتلتقي مارغريت الأخت الصغرى لجدتها التي ولدت فى نيويورك ولم تلتق بشقيقتها هيرانوش أبدا. 


هذا الكتاب عبارة عن مذكرات عن تجارب طفلة عانت بشاعة السياسة وقسوتها ، فقد شهدت الإبادة الجماعية للأرمن الذين قُتل منهم حوالي المليون خلال الحرب العالمية الأولى. كما تم اختطاف الآلاف أيضًا، وخاصة النساء، وأجبروا على العيش كنساء تركيات ومسلمات، و تشير التقديرات إلى أن ما لا يقل عن 2 مليون تركي اليوم قد يكون لديهم جدا أرمنيا واحدا على الأقل بحسب ما تذكر فتحية فى كتابها الذى تركز فيه على الضحايا الذين عانوا بشدة لكن دون إبراز مشاعر الكراهية والحقد واللوم. بل انصب تركيزها الأساسي على الاعتراف بالحقيقة وما حدث. 

 رغم صغر حجم الكتاب (139صفحة) إلا أن المؤلفة لم تكن بارعة فى عرض قصتها بشكل سلس ، إذ حشرت قصة حياتها منتصف الكتاب بحيث جعلتني أعود للقراءة من البداية كي أستوعب الأسماء الغريبة ومن هي هيرانوش ومن تكون أسكوهجي والدة المؤلفة برأيي لو كان للكتاب محرر لربما ظهر بصورة أفضل لكن تبقي قصة مؤثرة والكتاب جيد تضمن بعض الصور العائلية لهيرانوش وعائلتها التركية والأرمنية .

 صدر كتاب فتحية جيتين عام 2004 حيث حقق نجاحاً كبيرا وتمت ترجمته إلى أكثر من 13 لغة بينما فيها العربية وصدر الكتاب عن دار الفارابي ببيروت .تعيش الكاتبة فى برلين منذ العام 2012 بسبب تزايد الخطر على حياتها لتلقيها عدد لايحصي من التهديدات للقتل لأنشطتها فى مجال الدفاع عن حقوق الإنسان.