الخميس، 11 يونيو 2009

راستاجو..رائحة الذكريات وعبق القلب



راس التاج حيث تسكن اسرة والدى ، هى احدى ضواحى القبة البلدة الجبلية الصغيرة المتكئة على ربوة دائمة الخضرة ،فى راس التاج حيث يقع بيت جدى القديم والجديد ، فالبيت القديم الذى سكنه جدى وجدتى منذ الستينات بعد حصول بلادى على الاستقلال عام 1951م ، كانت تعود ملكيته الى مزارع ايطالى استغل الارض المحيطة بالبيت المبنى على طراز البيوت الريفية الايطالية ، حجارته مقطوعة بشكل جيد ،كثيرا ما ادهشتنى سمك الجدران الداخلية للبيت ، تنتصب شجرة لوز عتيقة فى باحته الامامية ، غرسها الايطالى صاحب البيت القديم، احيانا اجد نفسى افكر فى ذلك الايطالى الغامض صاحب ذلك البيت الذى سكنه جدى واسرته ، ثم عمى الاصغر واسرته من بعد ، احاول ان ارسم ملامح شخصيته ، بما كان يعتمل بصدره من امال عريضة، عندما غادر وطنه الى مكان غريب من اجل بداية جديدة ، افكر احيانا فى خيبة امله وتحطم احلامه فى الحصول على حياة افضل ، واتسائل هل فكر فى اولئك الليبيين البائسين الذين سكن ارضهم ، اعترف اننى كنت احيانا اجلس على عتبة البيت الامامية محاولة استراق النظر من وراء كتفاى الى الفناء الخلفى او احدى الغرف المظلمة ، لعلى المح طيف شبح أولئك الطليان الذين سكنوا المكان ، فى مرات كثيرة كنت اغمض عيناى واسترق السمع لهسهسة اشجار الارز المحلى والصفصاف المزروعة حول البيت ، واتخيل انها تروى اسرار المكان .

اول مرة زرت فيها ذلك البيت كنت فى التاسعة من عمرى ، اخذنى والدى من يدى واصطحبنى فى جولة على الاقدام فى البيت وما حوله ، بدى لى المكان فى تلك السن الصغيرة ساحر يلفه غموض جذاب ، احببت تلك الجولة التى لم تتكرر مرة ثانية مع والدى ، لاسباب عدة ، المهم اننى وجدت غابة من اشجار الصنوبر والدردار الضخم واشجار التفاح البرى الشهى ،وحزمات من النباتات العطرية البرية ، اغرمت بالمكان لدرجة الجنون، وظل ذلك فى ذاكرتى الطفولية ليكبر وينمو كالغابة السحرية مع نموى ونضجى عبر السنين .

اخبرنى والدى بان راس التاج هى موطن اسرته منذ ازمنة قديمة ، وبان قبيلته عاشت تتجول فى حدود هذه الارض ، حتى حدوث الاحتلال الايطالى لبلادى ، وما تعرض له الليبيين من تنكيل وتشريد على ايدى القادة الطليان دون تفرقة ، حتى بلغت قمة الشراسة مع مجىء غراتسيانى الى برقة ،لوالدى ومعظم الليبيين خاصة سكان المنطقة الشرقية طريقة لفظ لذيذة لاسم برقة ، تحس معها بان معظم من يستخدم هذا الاسم للدلالة على المنطقة ، وكانه يذكر نفسه باشياء عريقة تحمل للنفس الكبرياءوالفخر.

لم تكن مساحة ذلك البيت العتيق كبيرة ، الا انها كانت مناسبة لاسرة غربية اكثر من اسرة عربية تتمد كما تتمدد الاجسام بالحرارة ،فقد انتقلت اسرة والدى الى بيت جديد اوسع قليلا من الاول واحدث وتتوفر به وسائل الحياة العصرية ، منح لهم من قبل الحكومة فى السبعينات ،تحيط به ارض زراعية ، وقد لعب ذلك البيت دورا غاية فى الاهمية فى حياتى حتى ناهزت الثامنة عشر من عمرى ، فقد كان زياراتنا الصيفية والشتوية فرصة لتتعود عيناى مراى الافاق الفسيحة ومنظر الغروب الذى لا يعوقه شىء ، وقد فقدت سعادة العيش منذ ان حرمت التطلع الى هذين المنظرين ، لان الابنية الحديثة المشوهة المعالم بدات تزحف بشكل متوحش على الاراضى الرحبة لتعوق الرؤية ، فى كل زيارة خلال السنوات الاخيرة اجد صراع صامت بين الارض والابنية ، بقدر التوسع بالاراضى المغروسة اشجار مثمرة ، تنتصب ابنية لا تحمل اى طابع معمارى يتعلق بالمنطقة وتاريخها .

 عاش بيت جدى القديم فى مخيلتى طويلا بعد تلك الزيارة الفريدة مع والدى ، انسج عنه وعن غابته اوهاما ..اذ كانت معظم الاحاديث التى سمعتها تدور حول قصص وخرافات تتعلق بالمنطقة ...راس التاج التى حملت هذه التسمية لاطلالتها على البحربادية للناظر وكانها راس يحمل تاج، طبعا سكان المنطقة ينطقونها راس تاجو، بشكل سلس،فى صغرى كنت مقتنعة بان اسمها الاصلى هو راس التاج وبان اؤلئك السكان يحبون فقط تدليل موطنهم.

كان من عادتى ان اتجول فى تلك الاراضى المحيطة بالبيت الجديد وحيدة ، اجمع بعض النباتات العطرية البرية التى تشدنى رائحتها ، او اجلس على حائط قديم اتامل البقايا الاثرية فى المنطقة ، محاولة تخمين العصر الذى خلفها ، او اراقب الفراشات ،حالمة باصطياد احداهن للاغراء القوى فى اجنحتها الملونة ، ولاعتقادى بحرية تلك المخلوقات الرقيقة ، لا اعرف اين قرات ان وضعى فى ليلة يكتمل فيها القمر جناحى فراش تحت مخدتى قادرتين على منحى اجنحة اسطورية للتحليق، ظل هذا الحلم يراودنى حتى بلغت سن المراهقة ،فاصبح حلمى ان اراها ترفرف حولى دائما، اعتقد بان فترات الاطلاع الحر للعالم الخارجى من جانبى دون اى تدخلات من الكبار ، لها اهمية حيث تتيح الفرصة لتكوين انطباعات وان بدت عابرة ولكنها جوهرية فعلا.

كانت معظم الاحاديث التى سمعتها فى بيت جدى الجديد تدور حول اشياء حدثت فى الماضى ،منها ما كان يتردد حول جدى واسرته التى فقد معظم افرادها فى الفترة الاستعمارية خلف اسلاك احد المعتقلات الجماعية ، تلك الاماكن المخيفة التى لم يستطع اللليبين حتى الان نسيان اثارها ، على الاقل بالنسبة لجيل الجدود ، الذى غيب الموت معظمه ، بعد بقاءهم قابعين فى ظلال ذكريات الالم لتلك السنوات الصعبة.
 
كان جدى كما اذكره شيخا جاوز الستين من عمره ، يتنقل بمساعدة عكاز فى ارجاء البيت او المزرعة ، يجلس فى الشرفة الامامية للبيت معظم الوقت ،حيث يقضى وقته مسترجعا ذكرياته مع زواره من مجايليه اوالا صغر منه، كثيرا ما احببت ملامسة بشرة يديه الناعمتين عند مصافحته، كنا ندخل بهدوء ونظام انا واشقائى مع والدتى الى الشرفة الامامية للسلام عليه فور وصولنا الى راس التاج ،كانت لحظات محببة ،على الرغم من ان الحديث كان يدور بكيفية معينة لكى لا نتعب جدنا العزيز ، حسب كلام والدى الفخور باطفاله، كانت علاقة جدى بوالدتى تتميز بالاحترام المتبادل بينه وبين كنته الحضرية ، والدتى بالنسبة لها رات فيه صورة اب فقدته فى سن مبكرة ، عندما اتذكر ان صغر سنى وكبر ومرض جدى المرهق بذكرياته ، حال دون ان استمتع برفقته وان اتذوق حكاياته عن الماضى ،احس بشىء محزن ،لحرمانى من تلك المتعة الانسانية .

عندما توفى جدى كنت فى سن العشرين ،وبعيدة معظم الوقت بحكم ظروف حياة وعمل والدى ،وفاته وانا على وشك التخرج من الجامعة ، من قسم يدرس التاريخ ، جعلنى اتسائل عن ماضى جدى ، اذ اننى اذكرجيدا عدم معرفتى يوما لذلك الماضى ، الامن خلال بعض نتف الحكايات والذكريات من احاديث والدى المسروقة من رحلاته المستمرة وانشغالاته باعماله، او من افراد العائلة ، هذه الشذرات لم تروى ظماى لمعرفة حياة جدى قبل ان اولد بعقود ، فوجدت نفسى فى السنوات الاخيرة اسعى وراء افراد عائلتى طارحة اسئلة منظمة حتى ظفرت اخيرا ببعض الاجابات ،استطعت معها ان ارسم ملامح ذلك الحياة ، فقد عرفت ان جدى ولد فى العام 1909م بمنطقة "عين مارة "، اثناء تنقل قبيلته فى تلك النواحى ، طبعا "عين مارة" تدخل ضمن مناطق انتشار قبيلة والدى، كانت ولادة جدى لاب ميسور الحال منحه فرصة للحياة بشكل جيد، حسب رواية احدى سيدات العائلة الطاعنات فى السن اللائى عاصرن ذلك الاب ،خاصة وان والده لم يبقى من نسله على قيد الحياة سوى جدى وابنة اخرى ، لظروف البيئة القاسية فى ذلك الوقت.

 عندما وصل الايطاليين للجبل وبدات حركة المقاومة الشرسة من القبائل البدوية ، هرع جدى كغيره من شباب المنطقة للانظمام الى دور قبيلته ، وحمل السلاح الى جانب عمر المختار،حيث شهد معه معارك كثيرة ،كما رافقه الى مفاوضات سيدى ارحومة 1929م، مع قوة كبيرة من المجاهدين ، لا انسى اننى فى طفولتى شاهدت بندقية من طراز قديم ظلت معلقة فى غرفة نوم جدى ، وقتها ظننت ان جدى يحب الصيد كوالدى وان كان يفضل استخدم واحدة قديمة ،لم اعرف بانها بندقية جدى الذى خباءه فى احدى الكهوف الواقعة بالمنطقة عندماوقع بالاسر وفر بالبندقية الثمينة احد اقاربه ، فسلاح فى تلك الحقبة ضنين والبدوى لا يفرط فيه بسهولة ، فقد اسرى فى احد المعارك ، ليتم نقله الى سجن "سيدى خريبيش" ببنغازى ، ذلك السجن الذى شهد اعتقال وتعذيب الاف المجاهدين ، والذى هدم على يد الحكومة فى فترة الحكم الملكى لبلادى ، لينمحى اثر حمل ذكريات سيئة لمعظم الليبيين الذين قضوا بين جدرانه، ولتكبربعدها اجيال جديدة تتضائل فى نظرها معاناة الجدود ، لغياب المزارات السيئة الذكر.

 قضى جدى مع رفاقه فى السلاح اربعة اشهر فى السجن بانتظار حكم الاعدام المزمع تنفيذ فيهم ، "ذكر لى عمى الكبير ان والده فى الليلة قبيل تنفيذ حكم الاعدام به وبرفاقه،سمع صوت فى منامه يبشره بانه الوحيد الذى سينجو من الموت ، وفى اليوم التالى نقل السجانون الطليان رفقاء الزنزانة الى مدينة المرج حيث كانت تنفذ بها احكام الاعدام فى ساحة عامة بوسط المدينة القديمة ، باستثناء جدى الذى اطلق سراحه فيما بعد ، حيث ظل لفترة طويلة لا يفهم سبب ذلك العفو عنه ، وان كانت امه، تعزو ذلك لقوة فعل الخير التى كان زوجها يصنعها مع الاخرين " طبعا ذلك ايمان عميق بالله لدى جدودنا نفتقده نحن الجيل الجديد .فى سنوات الثلاثينات تم اعتقاله مع افراد اسرته المكونة من ثمانية افراد بمعتقل البريقة لمدة ثلاث سنوات ، حيث اطلق سراحهم بعد انطفاء شعلة المقاومة بالجبل ، بعد اعدام الشيخ الاسد ،خرج جدى من المعتقل برفقة والدته وشقيقته وابنته المراهقة ، بعد ان فقد معظم افراد اسرته ، من بينهم والده وزوجته ،لينقلوا الى منطقة البطنان رغما عنهم ، وابعادهم عن موطنهم الاصلى "عين مارة" ليتم حصارهم فى منطقة ام الركبة"تتذكر عمتى عن قسوة تلك الفترة ،فالطعام كان ضنين ،رغم ذلك لم يياس جدى من امكانية العودة الى موطنه ، فظل يتحين فرصة العودة حتى سمح له بعد تحسن الاوضاع بالجبل الاخضر واحساس الايطاليين با نتصارهم اخيرا على المقاومة الشرسة لليبيين الحفاة البدائيين ، حسب وجهة نظرهم المتعالية ،اشعرهم هذا الامر برغبتهم فى افساح حيز من الحركة للسكان المهدئين .

 ويتذكر عمى معاناة جدى ورفاقه من اولاد العمومة فى التنقل مشيا على الاقدام ، مجتازين مساحة طويلة من البطنان حتى" عين مارة" التى فرض عليه مغادرتها لاقامة فى" القبة" التى حرم من العمل بها فى البداية ، ثم اجبر على العمل سخرة مع احد البنائين الايطاليين لغرض بناء نصب تذكارى بمدخل القبة الشرقى ، هو قوس يحمل اسم الايطالى "بيجو" هذا الى جانب تحديد اقامته بالمنطقة لعدة اشهرفيما بعد ،حيث فرض عليه قطع المسافة بين" القبة" و"عين مارة" والبالغة حوالى 15كم، من اجل اثبات تواجده بالمنطقة فى سجل حضور يومى بمركز شرطة المنطقة .

 عند الانتهاء من بناء ذلك النصب اجبر جدى مع غيره من بعض سكان المنطقة على الذهاب الى الكفرة لنقل بعض العتاد ، الذى يحمل على ظهور الابل ، بينما يضطر رفقاء القافلة من الليبين من السير مشيا على الاقدام على رمال الصحراء اللاذعة ، محرقة الشمس بشرتهم، دون ماء او مؤنة أو اجرة عمل طبعا ، لم ينقذهم من الموت سوى اقتتاءهم على تمور الواحات ، او بعض الابار التى تصادفهم فى الطريق .عندما استرجع تلك الحياة المليئة بالالم والموت اتسائل كيف استطاع ذلك الجيل ان يصمد للبقاء حيا ، متمسكين بواجباته تجاه وطنهم على الرغم من ضنك حياتهم وبساطة تعليمهم وثقافتهم ، ربما لان بهرجة الحياة الحديثة لم تفسد فطرتهم .

كثيرا ما قارنت بين تلك المعتقلات البشعة ، وبين معتقلات الفلسطينيين و تسائلت ، هل سيكتب لهم النجاة بعد كل شىء ؟ ولما حتى الان لم نستغل قصص تلك المعتقلات كما يفعل اليهود بذكرى محارق الهولكوست؟ لما لا تعرف الاجيال الجديد ما كان يدور خلف اسلاك تلك الاماكن الرهيبة ؟لما لا تكون ضمن الزيارات المدرجة فى البرنامج الترفيهى والتثقيفى لطلبة مدارسنا ؟ واين الافلام الوثائقية عنها؟ لما لا نجعل العالم الغربى المتغطرس يرى ذكرى جرائمهم على اراضينا ؟

هناك 6 تعليقات:

  1. ياسو العزيزة
    اكثر من رائع --- اسلوب سرد شائق وممتع لم افطن انني كنت اشد انفاسي الا عندما انتهيت من القراءة!
    الم اقل لك من قبل اكتبي بحرية وانطلقي وافسحي لموهبتك في السرد والتاريخ المجال
    سعيدة انا وحق الله
    انتظر المزيد
    ليلى - نوهمة

    ردحذف
  2. شكرا عميق ياليلى على كلماتك المشجعة ...مودتى العميقة

    ردحذف
  3. ولا اروع

    مش من متتبعي التاريخ بس عرفتي تشديني

    اخى يهتم بهذا الشان وعند حب قصقصي ليه دائما لما تكون ف فرصة يقعد يقصقص ف جدتي

    تصدقي هناك تشابه بيننا
    انتى قصة جهاد من الشرق

    وعندى قصة جهاد كبيرة ف الغرب


    دمتى بالف خير يا محيطي

    ردحذف
  4. قصص الليبيين فى تلك الفترة ماقبل الاستقلال متشابهة ، رغم بعد المسافات ، اتمنى ان اقرا عن قصة اجدادك ، هو توثيق يانسيم لجوانب لن تتناولها الكتب والاطروحات العلمية ...ومودة بعمق بحور الدنيا

    ردحذف
  5. كما قلت حيرني دائما أننا نساهم في عدم التعريف بما كان يدور خلف تلك الأسلاك من حكايات رهيبة لأجدادنا تحت حكم التعسف و الإرهاب الفاشي . و أن كان للايطاليين عذرهم في الإخفاء كونهم الجاني في تلك المأساة ، فما عذرنا نحن ؟
    سيدتي ، ألمتني قصة جدك و قصص كثيرة مثله لتلك الحقبة ، و أتساءل دائما هل لو حدث ما حدث في بلد أخر سيكون تذكره مثل ما عندنا ، أشك في ذلك . شكرا لك مرة أخرى على تذكيرنا بما قاساه الأجداد ، و دمت .

    ردحذف
  6. Well done! You should write more of this caliber.

    ردحذف