الأحد، 29 أبريل 2012

مشاهدات آثرى فرنسى فى ابولونيا المغمورة بالماء




ها هو صاحبي حصل على تصريح بتنظيم رحلة تنقيب عن الآثار المغمورة في الصيف المقبل!


هكذا بدأ كل شئ. غمرتني الفرحة وأنا أوافق، وكنت مستعدا أيضا للقيام بأعمال النظافة في سبيل أن يصطحبني إلى ليبيا! ولم أدر آنذاك أن مشاركتي ستبدأ بهذا النوع من العمل شأني في ذلك شأن جميع أعضاء الفريق.


في شهر أغسطس 1986 بعد ثلاثة أيام من الترحال صرنا على أهبة العمل، فكرسنا اليوم الأول لجعل بيتنا في الموقع قابلا للسكن إذ كان كوخا من فترة الاحتلال الإيطالي يعج بالعقارب اليابسة وحشرات بنت وردان ذات اللون المحمر. وفي اليوم التالي ارتدينا الأقنعة والأنابيب وبدأنا استكشاف أعماق البحر، فتأكدت لنا الملاحظات التي دوّنها الأثري الأمريكي نيكولاس فليمنغ على إثر أعمال الرسم والتسجيل التي أجراها في عام 1957 ، إذ أشار إلى أن الهياكل المغمورة لميناء سوسة لا تزال واضحة للعيان، وكان في ذلك بلا شك ما يبرر الحفائر التي كنا بصدد الشروع فيها.


أما فيما يخصني أنا وحدي فقد كشفت لي هذه الآثار عالما كنت أظنه لا يوجد إلا في الكتب الأدبية. وكأنني انتقلت فجأة إلى عالم يتنازعه كل من جول فيرن Jules Verne و هـ.ج.ويلز H.G. Wells حيث تتماهى رواية "عشرون ألف فرسخ تحت البحار" ورواية "آلة الزمن" في متعة واحدة: تملّكني شعور حاد بل يقين بأني محلق فوق أطلانتيس خالية!


كنت أقبلت على عشق اليونان عن طريق مجاورة فلاسفة ما قبل السقراطية، ووُلدت إلى عشق العصور القديمة يوم تعمدت في مياه أبولّونيا (سوسة) الدافئة. وكنت منذ سن المراهقة ألفت الصيد بالخطاف في أعماق البحار ـ تلك المروج المفروشة بالطحالب وتلك الأشنات والمغارات الصخرية المرشوقة بزهر البحر والتي تتماوج فيها الرمال ـ ولم أكن أرى فيها من فائدة سوى أن توفّر كمينا لصياد أو وسيلة لتصويب سهم إلى فريسة. وإذ بتلك المناظر المعهودة التي تكاد تبلى من العادة تتخذ بعدا غرائبيا: هنا صفوف من الكتل الضخمة المُسنونة وهناك برج مربع وعلى مبعدة رصيف لإقلاع المراكب منحوت في الصخر، وفي مترين من الماء حوض للسمك وصفه فتروف [معماري روماني من القرن الأول قبل الميلاد] به أماكن مخصصة للأخطبوط وسمك الشيق...


في كل مكان بين كل حجرة وحجرة وبين الصخور المكسية بفراء من الطحالب تحيط بنا عشرات بل مئات من القطع الأثرية الظاهرة للعيان يكفي أن نمدّ إليها الذراع لنلتقطها، يليق بها أن تكون في المتاحف أو في صناديق محفوظات الأثريين: بطون أو قعور جرار من جميع العصور، مقابض رودوسية مدموغة من القرن السادس قبل الميلاد، كؤوس رومانية، شقف آنية مزخرفة...


عالم كامل راقد هنا، جامد كأنما حلّت به كارثة، مباح لمن يود الاهتمام به. من أبوللونيا، المرفأ اليوناني لقورينا القديمة، التي تغنى بها من الشعراء بنداروس أو كاليماخوس، لم يبق سوى لسان من التربة الحمراء المرشوقة بالأعمدة البيزنطية ومسرح مبني على منحدر التل وتشكيلات من المباني المتأخرة. ولكن على بعد بضعة أمتار من الساحل كانت هناك مدينة بومبي أخرى مغمورة تنتظر زائريها. إنه حظ مذهل للعلماء وهدية من الآلهة لي أنا الحالم الدائم.


.

مغامرة ومغامرات

من المعروف أن حفائر الآثار المغمورة بالمياه لا تختلف عن حفائر الآثار الموجودة على الأرض، كلاهما يستعمل تقنيات متشابهة ولئن كانت الحفائر التي تتم تحت الماء أصعب في تنفيذها وتستدعي تجهيزات وقدرات معيّنة. وفيما يتعلق بحالتنا كانت ظروف العمل شديدة الصعوبة. فلما لم يكن لدينا قارب كان علينا أن ننقل الأنابيب واللوازم سيرا على الأقدام حتى الشاطئ. وكنا قررنا استثمارا لوجودنا في هذا المكان أن نغطس مرتين في اليوم. ثلاث ساعات في الصباح يليها إعادة ملء الأنابيب على الشاطئ ثم ثلاث ساعات أخرى تحت الماء بعد الظهر. وبعد ذلك كان علينا نقل جميع أمتعتنا إلى المخزن والقيام بتنظيفها وصيانتها وجرد مكتشفاتنا... ثم القيام بالطهي.


مع الفريق الأرضي كان لدي كل ليلة حوالي اثنا عشر شخصا عليّ إطعامهم. وكان لدى البعثة حاوية مليئة بالجبن الذائب وعصير البرتقال المجفف والبهار والفطائر الجافة... ولما كان من المستحيل الحصول على أي مواد غذائية من متاجر الدولة كنا نشتري من أصدقائنا الليبيين السكر والعجائن والأرز الذي كان يلزمني لصنع الوصفات التي زوّدتني بها أمي في عجالة. على الرغم من السمك الذي كنا نحسن به وجبتنا اليومية ـ سمك الميرو الذي كنا نصطاده بالبهر كل يوم جمعة ـ فإني أعجب كيف تفادينا حدوث تمرد عام! أضف إلى ذلك أنه لم يكن يتوافر لنا سوى ماء الصهاريج وأننا لا شك لم نكن واعين بما نفعل عندما كنا نطرد يرقات الناموس من أكوابنا قبل أن نشرب.


بعد العشاء كنا نسجل مذكرات الحفائر ونحتسي الشاي بالنعناع جالسين على المصطبة ونظراتنا تراقب العقارب المتجهة إلى الضوء بتحفظ.


خلال خمسة عشر عاما من البعثات تكفي قائمة المغامرات التي صادفناها لتثبيط همة أي شخص يفكر في امتهان مهنة التنقيب عن الآثار: ثعبان في الفراش، عقارب في الأحذية، صيد بالقنابل اليدوية قريبا من المكان الذي نغطس فيه، طلقات إنذار بالرشاشات الثقيلة باتجاه زورقنا الذي اقترب من منطقة ممنوعة، اللهاث في البحر الهائج، وما إلى ذلك. والعجيب في الأمر أن أي من هذه المغامرات لم يقلل من سعادة المشاركة في هذه الرحلة.






  ديونيسوس الذي وُلد مرتين

لما كنا حققنا منذ عام 1986 نتائج مشجعة فقد حصلنا على امتياز دراسة مرفأ لبدة الكبرى. وفي العام التالي قادنا أحد استكشافاتنا إلى العثور على رصيف مغمور أدّى إلى إدراك أهمية هذه المدينة في عصر أسرة سيفيروس [نهاية القرن الثاني ـ بداية القرن الثالث]. أما الدراسة الدقيقة لميناء أبوللونيا فقد أتاحت ليس فقط فهم تطورها منذ أصولها اليونانية إلى أن أُهملت في القرن السابع بل أتاحت أيضا معرفة معامل هبوط التربة الذي تسبب في انغمارها الجزئي. وقادتنا هذه الأشغال إلى اكتشاف حطام سفينة هللينستية وإلى كشف العديد من الأواني الفخارية والعملات والمنحوتات.


إن الدوافع الأصلية لالتحاقي بهذه البعثة ـ روح المغامرة والصداقة ونصوص ألبير كامي [كاتب فرنسي حاصل على جائزة نوبل للأدب عام 1957] عن مدينتي تيبازا وجميلة [موقعان جزائريان مدرجان في قائمة اليونسكو للتراث العالمي] ـ لم يكن من بينها أبدا إغراء "صيد الكنوز". فقد حدث أن عثرت على عملة ذهبية رومانية (solidus) نادرة جدا ولكن التأثر الذي قطع أنفاسي في تلك اللحظة لم يكن بالمرة بسبب القيمة النقدية لهذه القطعة. إنما كان سببه ألق هذه الشمس الصغيرة المتراقصة في الزرقة مثل المرآة، والسعادة الغامرة لانتشال نثار من الجمال العاري من أعماق النسيان. إنها عملية مشابهة جدا في نهاية الأمر لعملية الكتابة والتي تشكل في نظري رواية متلازمة الغطاس للروائي الفرنسي سيرج بروسولو Serge Brussolo أدق استعارة لها: صيّاد أحلام يتوغل يوما بعد يوم في ظلمات النوم، ومن هذا العالم الموازي تصعد أنواع من الأشباح والغرائب الخيالية التي تنخرط في الواقع وتفلح في أن تسري فيه.


بعد مرور خمسة عشر عاما يوضح اكتشاف آخر بصورة أفضل أسباب مثابرتي. أثناء حفائر أحواض السمك الرومانية في أبولّونيا حالفنا الحظ أنا وكلود سانتس إذ استخرجنا تمثالا للإله ديونيسوس. وعندما عدنا بالتمثال على وجه الأرض كشف لنا فحصه أنه جزء من تمثال صغير لساتير (كائن أسطوري نصفه إنسان والنصف الآخر حيوان) عثر عليه سنة 1957 ، ذلك التمثال الذي أمسك به نيقولاس فليمنغ بين يديه كالوليد الذي أنقذ من المياه في صورة يظهر فيها وهو عائد من رحلة غطس. فبعد خمسين عاما استطعنا أن نستكمل تمثالا لديونيسوس ثمل ونعيد له شكله بعد أن عبر الزمن وكأنه يوحي بسخرية بالكنية التي تطلق عليه: "المولود مرتين".


إن علم الآثار يعيد وصل العرى، أكثر من أي فرع علمي آخر، إنه يقرب ويصالح بين هؤلاء الأحياء الذين فرقت بينهم مئات السنين. إن التراث المغمور بالمياه أسهل منالا وكثيرا ما يكون أفضل صونا وأكثر تجانسا من نظيره الأرضي. تأمّل مثلا الألف وخمسمائة كيلومترات للساحل الليبي التي لا تزال تطوي أسرارها وآنذاك ستقتنع ببساطة بأن هذا الجزء الخفي في أنفسنا ينبغي حمايته بالقدر ذاته من العناية والاحترام الذي نحمي به الجزء الظاهر.

جان ـ ماري دي روبليس ، كاتب وفيلسوف وأثري فرنسي. وُلد عام 1954 في سيدي بلعباس بالجزائر، ومن مؤلفاته: "ليبيا اليونانية والرومانية والبيزنطية" (2005). حصل على جائزة ميديسيس 2008 عن روايته الأخيرة "أينما يقطن النمور". 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق