الأحد، 12 سبتمبر 2021

الساعات الأخيرة من حياة عمر المختار كما يرويها سجّانه الإيطالي

صورة للشيخ المجاهد عمر المختار التقطت بعد إعتقاله

فى الحادي عشر من سبتمبر 1931 ألقى الإيطاليين القبض على المجاهد عمر المختار، عندما كان بصحبة عدد قليل من رفاقه أثناء زيارة ضريح الصحابى رويفع بن ثابت ، تم رصدهم من وحدة استطلاع إيطالية أبلغت حامية قرية اسلنطة التي أبرقت إلى قيادة الجبل باللاسلكى فتحركت قوات من الإيطاليين والليبيين لمطاردتهم،  وإثر اشتباك في أحد الوديان جُرح حصان عمر المختار فسقط إلى الأرض وتم التعرف عليه  من قبل أحد المجندين الليبيين مما جعل ضابط السرية يصدر أوامره لجميع الجنود بمحاصرة الجريح من أجل اتخاذ الاستعدادات السريعة لنقل عمر المختار إلى مقر القوات الإيطالية فى سوسة.

وعندما تم إلقاء القبض على عمر المختار سارع متصرف الجبل للتعرف على هوية الأسير، لذلك فعندما فرغ من التأكد من شخصية عمر المختار قام بإيداعه لدى السجّان ( ليفيو دل أغليو )*مساء يوم الحادي عشر من سبتمبر عام 1931  فى سوسة أشار إليه محذراً وهو يرفع سبابته فى وجهه نحو عمر المختار قائلاً: "هل ترى هذا المتمرد، أحرص لا تدعه يهرب منك، لأنى سوف أقتله" .


عمر المختار جالس على الأرض في زنزانته.  

بعد حوالي النصف قرن ، تحدث ليفيو دل أغليو فى حوار أجراه معه الصحفي الإيطالي باولو باغانيني عام 1980 بمناسبة عرض فيلم عمر المختار للمخرج العقاد عن تلك الساعات الأخيرة من حياة الشيخ الشهيد التى قضاها فى معتقله بمدينة سوسة تحت الحراسة المشددة . ويصف شاهد العيان ليفيو ، عمر المختار قائلاً: "كان شيخاً متوسط الطول عيداً، عيناه تشعان ببريق الدها والحيلة، ويبدو منظره كطائر جارح بسبب التقوس الذى يبدو فى ظهره، بالإضافة إلى عمق التقاطيع التى تمتد من أعلى جبهته لتستمر فوق حاجبيه ثم تنحدر إلى أسفل حيث تتقاطع عند فمه ثم تتوارى عند ذقنه تحت لحيته البيضاء القصيرة أما لون بشرته فإنه كان يميل إلى اللون الأسمر. ويستطع المرء أن يدرك مدى مايتميز به عمر المختار من سمو وطموح بالإضافة إلى عزة النفس عن قرب، حيث أن تلك الصفات جميعاً لا تنفى مدى مايتصف به من نبل ووجاهة". وقد نظر عمر المختار إلى سجانه قائلاً: "هل تعرفنى؟ فأجاب ليفىو بقوله: "كلا لم اعرفك أبداً" ولكن عمر المختار بادره بهدوء: "أنى قد رأيتك عدة مرات، فأنت معروف بين الأهالى بارتدائك الزى العربى، كما أنك تعتبر أشهر وأسرع فى إطلاق النار، أنا أعرف ذلك فالحرب هى التى جعلت منا أعداء. أن رجالى يعرفونك جيداًحيث يلقبونك باسم الشيطان فأنت الذى نت تحرس بنات القبيلة عندما كن يقمن بزيارة سيدى عبد الواحد، أتذكر رجالى عندما قاموا بمهاجمتك عند وادى الكوف، لقد نجوت بأعجوبة من وابل الرصاص عندما اضطررت إلى تغيير الحصان الذى كنت تمتطيه والذى كان قد أصيب بطلقات الرصاص لثالث مرة، فلنقل لأن الله قد نجاك، بعد توقف إطلاق النار، هذا كل ما حدث وأنا الأن اعتبر نفسى سجينك" وعندما توقف عمر المختار عن الكلام، بادره ليفىو بقوله: "سوف أعقد معك معاهدة سلام إلى الضيف، فأنت لست سجينى فقط بل ضيفى فى اليوم الأول، حيث يعتبر الضيف عندكم فى ذلك اليوم ابن الله". ثم يستمر ليفى فى روايته أن عمر المختار قد التفت إليه مجيباً إياه بقوله "السلام عليك" حيث رد عيه ليفىو وهو يتركه لوحده قائلاً: "وعليك السلام إلى غد".

ويستمر السجّان فى روايته بقوله: "وعندما تركت عمر المختار لوحده، ذهبت لإعداد الطعام له، والذى يتكون من طهى دجاجة له، وعندما قدمت له الطعام، اعتدل عمر المختار فى جلسته ولم تمر إلا ثوانى وقد التهم الدجاجة حيث لم يترك منها إلا العظام بعد أن خرطها من اللحم بواسطة أسنانه الناصعة البياض، وعندما شعر بنظراتى تتجه إليه التفت إلى قائلاً: "إن اللحم يعتبر غذاء رئيسياً لى لانه يمنحنى القوة" وبعد أن فرغ من التهام الطعام جلس وأخذ ينظر إلى بينما بادرته قائلاً: "أريد أن أسالك الآن" وبعد أن رد بالإيجاب هو يعتدل فى جلسته قلت له متسائلاً: كيف استطعت انت ورفاقك البقاء على قيد الحياة طويلاً دون حماية وتموينات؟ أجابنى وهو يهز رأسه قائلاً: "نحن البدو مثل عصافير السماء التى تجد ما تأكله فى المكان الذى يخيل إليك أنه يخلو من الطعام". وبعد أن تركت عمر يسرح فى خياله، نهض من مكانه وهو يزمجر غضباً كالأسد متأثراً بما حصل له، بينما أخذ يتفوه ببعض العبارات يرددها قائلاً: الكلب .. الكلب، حتى عمر غدر به، حتى عمر كان له يهودا وعندما هدأ غضبه اقتربت منه حيث جلس وأخذ يروى كيف وقع من على حصانه الذى أصيب بجراح، ثم كيف حاول الاختباء تحت الشجيرات القريبة منه، ولكن أحد فرسان الصوارى والذى كان من العرب استطاع اكتشاف عمر المختار وهو مختبئ تحت الشجيرة. يصمت عمر قليلا، ثم يضيف بحدة وغضب عن العربى الذى اكتشفنى تحت الشجيرة يعتبر أخى، لم يسكت بل بدأ يصرخ عندما عرفنى بأعلى صوته باسمى كاملا ، وهو يردد عمر، عمر المختار، فلو أن ذلك الكلب الخائن لم يتفوه بكلمة واحدة عنى لربما تم نقلى مع بقية الأسرى كشخص عادى، فلا أحد يعلم فيما بعد فربما أستطيع الهرب بمساعدة أحد رفاقى".

شيخ الشهداء عمر المختار يغادر سجنه في سوسة
 وطوال تلك الليلة التى قضاها عمر فى سوسة، والتى لم يعرف أبداً بأنه سوف ينقل بواسطة البحر إلى بنغازى صباحاً أخذ يروى شتى القصص على مسامعى، بينما كان بين الحين والآخر يتململ وهو يتآوه قائلاً: مكتوب، مكتوب فالذى قد سطر فلا مفر منه، فحياة الإنسان كالسبحة تتساقط حباتها متتالية مثل توراد الأفكار على الإنسان نفسه، فمرة يشعر بالسعادة وأخرى بالحزن، وهكذا ينتهى إلى النهاية فمرة حظ سعيد وأخرى حظ سيىء تعس، فالمكتوب هو المكتوب لن يتغير أبداً" وبعد أن توقف عن الكلام حدجنى بنظرة وهو يقول:" أنت شاب محارب مخلص، فأنا مسرور جداً لأكون سجينك، هذا بالإضافة إلى أنك متزوج من فتاة مسلمة عربية من قومنا، ولكن المسلمة لا تتزوج مسيحى " فقاطعته قائلاً" إن الفتاة العربية التى من قومك قد تزوجت من رجل طيب وأمين ثم بسطت له يدى مصافحاً".

ثم يستمر ليفىو سجّان الشهيد فى سرد حكاياته عن الساعات الأخيرة فى حياة البطل عمر المختار حيث يصف شخصية البطل المسلم المؤمن بالقضاء والقدر بقوله: " وفى الحقيقة كان عمر رجلاً يصلى لله من انبلاج الصبح إلى غروب الشمس مع نهاية كل يوم، رجلاً يصلى لله ليلاً بدلاً من أن يتمشى، رجل يصلى لله من أجل أسرته وماشيته ثم الطريق الذى سوف يسلكه، رجلاً يصلى لله من أجل حماية حياة المسلمين جميعاً ومن أجل مواصلة الكفاح العادل المقدس الذى أمر به الله سبحانه وتعالى، الله أكبر، الله أكبر".

شيخ الشهداء عمر المختار يستقل الطراد من سوسه الي بنغازي

 ألقى عمر المختار نظرة إلى الخارج، إن بزوغ الصبح لقريب هكذا قال وهو يتململ فى مكانه ثم أضاف قائلاً:" إن بزوغ النهار يكون طرياً منعشاً مثل صوت شابة تغنى على البئر، ثم يكون توالى النهار فيما بعد باعثاً على السأم والملل مثل سير خطوات الجمل البطيئة، أو حارق مثل حدوة الحصان الذى يركض مسرعاً وأخيراً المساء وهو مثل لون الرماد، إن الحياة مثل تعاقب النهار، شعارها فعل وإرادة يكونان معاً شيئاً مهما فى حياة الإنسان، ثم يتدخل القدر فيما بعد ليدل على مصير حياة الإنسان .إن حتمية النهاية أو المكتوب "القدر" بالنسبة للإنسان تأتى تلقائياً مثل نافورة مياه أو مسجد فى الصحراء عندما تصل إليهما تجد نفسك تعبان وبالتالى غير قادر على مواصلة السير، فتبقى تنتظر بجوارهما حلول المساء أو بمعنى أخر النهاية أو المصير، فأنت كما ترى أن حياتى قد رسمت مسيرتها منذ الولادة حتى النهاية.فحياتى ليست مثل حياة أولئك الشبان تبدأ مع شهر رمضان ولكنها كانت قد بدأت قبل ذلك، فأناولدت لأقود الآخرين ولأفهم ماجاء به القرآن الكريم من معان، بينما البعض الآخر يكتفى بتعلم قراءته فقط ثم قام عمر بخلع جرده عن كتفه، وبينما انهمك ليفترشه فوق قراءته فقط ثم قام عمر بخلع جرده عن كتفه، وبينما انهمك ليفترشه فوق حصيرة الديس استعداداً للنوم خرجت أنا- ليفى- لأقوم بالدورية الليلية المعتادة ممتطياً صهوة حصانى ولك للتأكد من أن كل شىء يدور حول المعسكر على مايرام، وما أن رجعت إلى عمر بعد أن تأكدت من الهدوء الذى كان يحيط بالمعسكر، حيث وجدته مستغرقاً فى النوم، بينما لا زال رفاقه لم يعرفوا بعد المكان الذى نقل إليه، مما جعل ابن عمر المختار الذى يعتقد أن المختار لم يقبض عليه بل تاه ولم يستطع الوصول إليهم بسبب الجروح التى أصيب بها يجرى مهرولاً فى الجبل منادياًبيأس: يا باتى، ياباتى، بينما كانت أسرته تشعر بالقلق عليه لعدم عودته مع رفاقه كالعادة.

عمر المختار يستقل الطراد أورسيني إلى بنغازي

وفى الفجر عندما سمع عمر المؤذن ينادى المسلمين لأداء الصلاة بقوله "الله أكبر، الله أكبر" قام عمر من نومه وتوجه نحو القبلة بمكة وأدى الصلاة كبقية المسلمين " وفى الحقيقة وجدت نفسى (ليفى) معجباًبفلسفته فى الحياة، فهو يشعر فى وجدانه بأنه محارب وقد هزم ولكنه لم يفقد الهدوء وعزة النفس والوقار الذى كانت تتميز به شخصيته" .

وعند تمام الساعة السادسة صباحاً قمت بمرافقته إلى الطراد الحربى اورسينى حيث تم التسليم والاستلام مع الجنود الذين اقتادوه على داخل الطراد بينما كان يلقى على تحية الوداع وعندما عدت إلى المعسكر، كنت أفكر فى عمر المختار بينما كنت أهمس إلى نفسى فى هدوء لربما أراه وربما لن أراه أحقاً أن الموتى لايرجعون " وما أن وصلت إلى المعسكر حتى قلت لنفسى، يموت عمر، لا مفر من ذلك، أما أن يقاسى إهانة الشنق كأى مجرم عادى أو أى شرير جاحد لله، فهذا مايعتبره المسلمون إهانة، حيث يعتقدون أن حبل المشنقة عندما يلتف حول الرقبة لا يسمح بخروج الروح من الحلق، وهكذا كما يعتقدون أن روح عمر المختار لن تستطيع الرجوع على الخالق".

ليفيو دل أغليو وقد قُدم بلقب لورانس ليبيا

 *ليفيو تخرج من مدرسة الفرسان توردي كوينتو وقع عليه الاختيار للقيام بالخدمة العسكرية الإلزامية حيث تم توقيعه على الخدمة لمدة ثلاث سنوات وذلك فى عام 1926 حيث ألتحق كمتطوع للخدمة العسكرية فى ليبيا ضمن كتيبة الفرسان العربية للصواري ، وفى عام 1928 كان قد تم تعيينه قائدا ً للسرية العربية غير النظامية والتى كانت سوسة تعتبر مركز قيادتها ، حيث كانت تلك السرية تعتبر تحت صلاحيات سياسيا أو مسئوليات أغسطس مالاكريا وكان ليفيو من القناصة المهارين حيث يستطيع إصابة سيجارة من على بعد أمتار بطلقة واحدة .وعندما رجع إلى إيطاليا عام 1932 تحصل على وسام الطيران من أكاديمية الطيران فى كاسيرتا ـ كما اشتغل بعد ذلك كمراسل صحفي متجول بالإضافة لعمله كمبعوث خاص للمعهد الوطني لوتشي.

 Paolo A.Paganini: Le Ultime Ore del Garibaldi Della Libia. Storia IIIustrata ، تمت الترجمة من قبل الدكتور (إبراهيم أحمد المهدوي) ونُشرت ضمن كتابه : دراسات في الأرشيف والمعلومات، (بنغازى، منشورات جامعة قاريونس، 1998) ص 411 إلى 426. سبق نشر المادة المترجمة بقسم رواق التاريخ ، موقع جيل الليبي ، 16بتاريخ  سبتمبر 2009.

هناك تعليق واحد: