الأربعاء، 26 أغسطس 2009

طيارة ورق ...

منذ ثلاثة اشهر عرجت على قسم مبيعات الكتب الخاص بالجامعة الليبية (قاريونس) من أجل التعرف على الاصدارات الجديدة ، فوجدت كتاب طيارة" ورق كنوز من ألعاب الأطفال العربية " سُعدت به لدرجة كبيرة كنت كطفلة تفتح امامها مغارة سحرية ...لقد قرأت عن الكتاب فى عرض للصحفية انتصار الجماعى عبر موقع جيل ، ولكنى لم اعثر على نسخة عند السيد لنقى الذى نصحنى باللجوء الى مؤلفته لحصول على واحدة ، الا اننى كلما التقيت العذبة سكينة يقودنا الحديث الى دروب متشابك وبعيدة عن طيارة الورق ، وصارت ابلة امينة التومى مسئولة قسم المطبوعات الليبية بالمكتبة المركزية بالجامعة تحرضنى على اقتنائه ، ومانعا ً اياى من مطالعة نسخة القسم ... حتى ذلك النهارالذى مررت على المبيعات. لقد وجدت نفسى اجلس على العلب الكرتونية بجانب الحاجة فوزية السكران(مسؤولة القسم) اقلب الكتاب وانا غير مصدقة عثورى عليه اخيرا ...واخيرا نسخة تخصنى ، هكذا قلت لنفسى ...يومها لم انتبه لارتفاع درجة الحرارة التى تقارب ال36 ولا الرطوبة العالية فى طريق عودتى من الجامعة ...كنت اتحرق شوقا للوصول الى البيت لكى اقرا الكتاب...وضعته تحت مخدتى ونمت وانا احلم بطفولتى الذهبية ....كنت اقول بينى وبين نفسى ..ماذا فعلتى ياسكينة اعدتنى طفلة صغيرة تلهو على ارجوحة الحلم ... عشية كنت انتظر اولاد شقيقتى امل لالعاب معهم كل العاب الكتاب التى مارستها فى طفولتى ...صنعت طائرة ورقية لمحمدابن امل ....ورددت الاهازيج والاغانى التى بالكتاب ...ماما وامل وزجات اشقائى كن يراقبننى وسرعان ما انتقلت اليهن العدوى ...فكن يتخطفن الكتاب ويتذكرن ما فيه ويطالبننا بتطبيق الوحواح ، ورسمنا النقيزة ، وتسائلنا عن هذى شنى ......يومها عاد الكبار صغارا ً...
ولان مافيه كنز ثمين اردت مشاركتكم به خاصة هذا الجزء الذى يخص هذا الشهر الفضيل ،حيث تتحدث المؤلفة الدكتورة سكينة بن عامر ،عضو هيأة التدريس بقسم الاعلام بالجامعة الليبية عن سبب تأليفها للكتاب:"...تطير بنا (طيارة ورق)إلى جزء جميل من تراثتا المشبع بالفرح والانطلاق ، والمتمثل فى ألعابنا الشعبية العربية المشتركة بين أبناء الوطن العربى الواحد، التى كانت حية تضج بها بيوتنا ، وحوارينا ذات يوم ، ثم أختفت من حياتنا وتلاشت فى ظل سيطرة الفكر الالكترونى والعولمى الذى يختصر حياتنا فى قناة فضائية أو فى غرفة دردشة ، ولن يمضى وقت طويل حتى نجد هذا التراث الثمين قد انتهى بانتهاء حياة من عرفوه ومارسوه ، وبالتالى سوف نفقد حلقة مهمة من حلقات تراثنا المترابط بين الأجيل إن هذا هذا الكتاب يحمل بين طياته رسالة مهمة للجميع ، نحن ننتمى الى ثقافة واحدة، وفكر انسانى مشترك يمتد بنا بامتداد مسافات هذا الوطن الجميل ، فلنحافظ على هذا التراث ولنحييه .. وأما عن الجزء الخاص بأهازيج وتعبيرات خاصة بشهر رمضان المبارك فتذكر"..يتبارى الأطفال فيما بينهم على صيام شهر رمضان المبارك ، حيث يشجعهم الأهل ، ويباركهم المجتمع المحيط ،ويشيدون بصبرهم وقوة تحملهم وشجاعتهم ، كما إنهم يكافئونهم على إنجازهم هذا ، ويهدون لهم النقود الحلوى والفاكهة ، لذلك يحرص الأطفال على الصيام ، وعلى الإعلان عن صيامهم ليحصلوا على أكبر قدر من الهدايا ، ومنذ اليوم الأول ينطلق الأطفال فى الشارع منشدين :
(ياصايم رمضان / ياكاسب ربك/ كلبتنا البيضاء / تحبك فى خدك)
أما الأطفال الذين لم يصبروا على الصيام ، خاصة ممن هم كبار ، فإن الصائمون يعيرونهم بإفطارهم ويشيعونهم بالسخرية وهم يرددون ( يافاطر رمضان/ ياخاسر دينك/ كلبتنا السوداء / تقرقض مصارينك) .
أما إن ضبط أحد الأطفال وقد أفطر ، فإنهم يجرون خلفه منشدين ( فطار فى رمضان/ انديروا كرشته عصبان ).وهكذا يستمرون فى مضايقته حتى يغضب ، وتتصاعد المعارك بينهم كعادتهم . أما إذا ما زاد الخلاف والغضب وفقد أحدهم أعصابه ، فإنهم يتحلقون حوله مرددين )حشاش) . ويستمرون فى ترديدها إلى أن يهدأ الطفل، أو يزداد غضبا على غضبه .
ويختلف الاحتفال بقدوم شهر رمضان المبارك من قطرعربى إلى آخر، ففى مصر يحمل الأطفال القناديل وتسمى فوانيس ، وينشدون معا ) وحوى يا حوى /ايوهه/ رمضان جانا / أيوهه) ويجوبون الشوارع جماعات وهم ينشدون : ( يارمضان ياعود كبريت / يامقيد كل العفاريت) ، ثم يجلسون أمام أبواب البيوت ويضربون بآنية نحاسية بها قليل من الملح ، اعتقادا منهم بأن العفاريت إذا ما اقتربت من المنزل وسمعت هذه الأصوات النحاسية تهرب خوفا ً من سجنها فى قماقم النحاس ، ثم ينشدون (يارمضان ياصحن نحاس/ ياداير فى بلاد الناس / سقت عليك أبو العباس/ تبات عندنا الليلة) وعندما يمرون أمام البيوت فإنهم يطلبون الحلوى والهدايا من أصحابها ، حيث يتولى أحد الأطفال الغناء مرددا : (لو ما محمد ماجينا / ولا تعبنا رجلينا / يحل كيسه ويدينا / يدينا ميتين ريال) بينما يردد الباقون خلفه عبارة (يالله الغفار) بعد كل شطر من الأغنية .
وفى الكويت يستقبلون الشهر الكريم بإنشاد المدائح النبوية ، والأغانى الدينية ، كما يحيون ليلة (الكريكعان) وهى ليلة النصف من رضمان ، وفيها يجتمع الأطفال بعد الإفطار فى الشوارع مكونين جماعات ، ويختار كل فريق رئيسا له ، وعادة مايكون أكبرهم سنا أو أكثرهم نشاطا ، وتطوف تلك المجموعات على المنازل حاملين الأكياس والطبول ، وهم ينشدون )سلم ولدهم يالله / خله لامه يالله ) وعندما يصلون إلى بيت أحدهم فإنهم يذكرون اسمه كى يمنحهم الأهل(الكريكعان) المكون من أنواع الحلوى واللوز ووالنقود .وفى حالى ما أبطأ أهل البيت فى الاسجابة لنداء الصغار فإنهم ينادون قائلين :(يسوق الحمارلو مايسوق ). فإن قيل لهم: ( ماتسوق) فإنهم ينتظرون إلى أن يخرج لهم أهل البيت ويمنحونهم (الكريكعان) . وهنا يدعون بالخير لأهل البيت بقولهم (عساكم تعودونه) أو (من عطا عسى يعوده) . وأما إن قيل لهم (سوق)فإنهم يتراجعون معبرين معبرين عن سخطهم ومرددين : (عساكم ماتعودونه).
أما البنات فإنهن يرددن بعض الأبيات أثناء طوافهم على منازل الحى ، ومن أشهر أهازيجهن: (كريكعان أو كريكعان/ بين اكصير ورمضان / عادت عليكم صيامه / كل سنة وكل عام / يالله سلم فلان / يالله خليه لامه / عسى البكعة ماتخمه / ولا توازيه على أمه ).
وتسمى هذه اللعبة فى العراق (الكركيعان) وهى مشابهة تماما للعبة التى تمارس فى الكويت وينشد الأطفال أثناء طوافهم على البيوت :(كريكعان أوكريكعان / كل السنة واللعيان / الله ينطيكم اوليد / ايشد الكارة بفرد ابنيد / انطونه الله ينطيكم / بيت مكة ايوديكم / يامكة يالمعمورة/ يام السناسل/ والنورة ).
وعندما يقتربون من أحد البيوت ينادون أهله :(أهل السطوح/ تنطونا لو نروح)فإذا خرج لهم أهل البيت وأجزلوا العطاء فإنهم ينشدون أمام البيت : (الله يخلى فلان/ الله يخلى فلانة / الله يخلى راعى البيت / الله يخلى أم البيت / كريكعان ابيتكم / الله يخلى اوليدكم / كريكعان بسكتكم / الله يخلى ابنيتكم ) .
وبخلاف الأطفال فى العراق والكويت ، فإن أطفال الإمارات يحتفلون بالقرقعان ليلة النصف من شعبان ، ويسمى عندهم (حق االليلة ) أو (الحلقة ) وهى تدل على الابتهاج والاحتفال بمقدم شهر رمضان المبارك ،وفى هذه الليلة يقوم الأطفال بتجهيز أكياس قماشية تسمى (خريطة ، او خرى ) ويمرون بها على البيوت مرددين :( يللا انسير حق الله / جدام بيت عبد الله / يللا نسير حق الليلة / الليلة أحلى ليلة ) و عندما يصلون عند باب المنزل ينادون :(عطونا الله يعطيكم / ببيت مكة يوديكم / عطونا من مال الله / سلم لكم عبدالله )فإن قدم لهم أهل البيت (الحق) وهو اللوز والحلوى والنقود ، فإنهم يمدحونهم ):سلم ولدهم يالله / وتخليه لامه يالله) أما إذا قفل الباب فى وجوههم ولم يحصلوا على (حق الله) فإنهم يرددون محتجين ( قدام بيتكم طاسة / ووجوهكم محتاسة ) لذلك فمن النادر أن يمتنع أى أحد عن إهداء الأطفال (حق الله ) فمن يحتمل مثل هذا التوبيخ ؟ ....".... ورمضان كريم للجميع ...

الجمعة، 21 أغسطس 2009

تهنئة لمناسبة حلول شهر رمضان المبارك

تهنئة من القلب لكل ابناء وطنى وللمسلمين فى كل مكان فى العالم ....شهر رمضان شهر الرحمة والمودة هذا هو جوهر الشهر الفضيل فلا تنسوا ...كل عام وانتم بخير اعاده الله على أمة محمد بالخير وبالصلاح

الخميس، 6 أغسطس 2009

أرأيت سوسة والاصيل يلفها..

بعد ساعات نوم قليلة ، وجدت نفسى اجمع اغراضى صباح يوم امس لارافق شقيقى الكبير امون الى مدينة سوسة بالجبل الاخضر ، انطلقنا على تمام الساعة ال9 صباحا ً مصحوبين بدعوات وتوصيات ماما بالتأنى فى الطريق والاستمتاع بنهار مبارك ...عبر مدن الجبل الاخضر وقراه كنا نقطع الطريق على اغانى حليم وفيروز ...وصلنا الى سوسة على تمام الساعة الحادية عشرة وربع بعد ان قررنا الا نتوقف فى بلاغراى "البيضاء" عند اخينا الكبير آبيه – طبعا هو لقبه على طريقة المصريين فى افلام الابيض والاسود- فلدى آمون مواعيد عمل فى سوسة تتعلق بمشروع سياحى استثمارى ربما ينفُذ فى تلك البلدة الجبلية الساحرة ، واما انا فمرتبطة بموعد مع مراقبة آثار سوسة للحصول على تقارير تخص ميناء سوسة التى تعمل بها البعثة الفرنسية برئاسة البرفسور الفرنسى آندريه لاروند ....كانت سوسة هادئة فى تلك الساعات الصباحية فمعظم السكان يتناولون وجبة افطار متاخرة يطلقون عليها" فطور الضحا" وهى تتكون من اكلات ليبية تقليدية كالمقطع على اللبن او الارز باللبن والزبدة او دشيشة باللبن ، ولكن صاروا يضيفون لهذه الاكلات التقليدية المعلبات الحديثة كالجبن والتونا والمربى وغيرها توقفنا عند سورمبنى مراقبة الاثار الخارجى القريب من المنارة وهو الفندق الوحيد ذو اربع نجمات بتلك المدينة الصغيرة ، ويقع على شاطىء البحر مباشرة ويتمتع بخدمات فندقية راقية ...كان الهدوء يلف المكان ، انتظر امون ليتأكد من وجود احد اعضاء البعثة الفرنسية فى مبنى المراقبة ليتركنى برفقته ويغادر لمواعيده .
...دفعت البوابة الحديدية القديمة لأجد عبد الصالح صديقى واحد زملاء الدراسة(ايام زمان)واحد العاملين بمصلحة الاثار بشحات موجود ليساعدنى فى الترجمة فهو يتحدث اللغة الفرنسية بطريقة جيدة، حيث اخبرنى بعدم تواجد البروفوسور لاروند ، جلسنا على الكراسى المتناثرة وسط الفناء تظللنا عريشة كبيرة ملىء بعناقيد العنب الاحمر،حيث يضم مجموعة مبانى ترجع للفترة الايطالية الاستعمارية وكانت تسُتخدم لنفس الغرض فى تلك الفترة ، المبانى جميلة جدا ، كل مبنى يضم ثلاث غرف وحمامين بدائيين ومطبخ صغير وصالة صغيرة تفتح فيها كل الغرف الداخلية ، والنوافذ مستطيلة ولها افريز من المرمر الرمادى وارضيات المبنى من البلاط المكون من مكعبات باللون الابيض والاسود ...كل البيوت تطل على البحر مانحا ً لساكنى تلك المبانى اطلالة لاتقدر بثمن ...جلست مع الصديق عبد الصالح للدردشة حول اخبار البعثات الاثرية وماتم انجازه من عمل فى سوسة وشحات وقصر المقدم وقصر ليبيا والكثير من المناطق الاثرية الشديدة الثراء بالمخلفات الثمينة ، ثم عرُفنى على مجموعة باحثين جدد قادمين من فرنسا ، حاولنا التواصل بقدر ما تسمح به اللغة...ثم رافقتهم الى المعمل لتسجيل ملاحظاتى والبداء فى الشغل على ما اريده ، رغم صعوبة الامر لانهم لا يسمحون بالاطلاع على كل النتائج قبل ان يتم نشرها بشكل رسمى ، ووقفت اللغة عائق فمعرفتى فى اللغة الانجليزية جيدة ، والاسبانية ، كما اصبحت افهم قليلا فى الايطالية ولكن الفرنسية ..لا ادرى استمتع بسماع النغمة الموسيقية ولكن لم انجح فى التعلم ....غادرت بعد الساعة الثانية ونصف وسط الحاحات عبد الصالح بالاتصال بشقيقى امون وابلاغه بان نأتى لتناول الغداء فى بيته القريب ، قضيت مايقارب النصف ساعة وانا اشرح ارتباطاتنا المهنية ، واننى مضطرة للذهاب للفندق لقراءة التقارير التى تحصلت عليها ووضع ملاحظات مبدائية والعودة بعد صلاة العصر لطرح بضع اسئلة على كريستين احد الباحثات الاثريات المرافقات للبعثة والتى تعرف القليل من اللغة العربية لم يقتنع عبد الصالح الا بصعوبة ، ذهبت اتمشى على الشاطىء باتجاه الفندق رغم ارتفاع درجة الحرارة لم يمنع من وجود بضع اجساد بشرية فى مياه البحر الزرقاء ...كنت اضع نظارة سوداء كبيرة والف رأسى فى وشاح ازرق لكى لا يتعرف على احد من اقاربنا المصطفين او القاطنين بالمدينة ...شعرت بانى احتاج للبقاء وحيدة قليلا ...كنت ابحث عن مكان يقينى حر الشمس ويسمح لى بالتأمل امام شاطىء البحروهو يتلألأ بلونه الفيروزى والأخضرالداكن .

جلست فى ظل مبنى اثرى محتمية به من الشمس ومن نظرات المتلصصين ، رغم اغراء المياه الا اننى لم اسبح فى البحر نزولا عند وعد قطعته لماما التى استحلفتنى بالا افعل وانا وحدى "..سلم بنيتى بحر سوسة اغرق فيه حاتم ولد خالك ، وانتى وحدك تقولى انه التيارات البحرية فيه مرات تكون سريعة وصعبة على العوامين ، هنينى سلم بنتى ، باهى ياماما والله حاضر" لا ادرى لما خطرت ببالى اغنية لفيروز اسمها مراكبنا على المينا وهيلا ياواسع كنت ادندنها لنفسى وانا اراقب من وراء نظراتى الشاطىء الممتد امامى ، فهناك حمام كليوبترا الملكة البطلمية التى حكمت مصرمخلدا ً آثارها فى قصة حب جمعتها مع اعظم قواد الرومان فمن قيصر الى مارك انطونيو ، ويقال بانها كانت تأتى لاصطياف هنا فابولونيا فى تلك الفترة خاضعة لامبراطورية البطالمة ... كنت استرجع ذكرى زيارات لهذه المدينة مع والدى رحمه الله الذى حُلم طويلا بمشروع فندق على طراز رفيع وبدأ فى العمل على تنفيذ الفكرة فى بداية عقد التسعينات ولكنه فشل مع سياسة الدولة وقتها فى عرقلة المشاريع السياحية ، فهو عمل على تنفيذ بعض طرق البرية الواصلة بين المدينة وبين عدة مدن ومناطق اخرى ايام العهد الملكى ، كان بابا كغيره من ابناء جيله يحلم لليبيا بالكثير لم افهم فى البداية حسرته ولكنى بعد مرور هذا الوقت ادركت بان بابا لم يكن رجل اعمال اراد بناء ثروة بل احب بلاده على طريقته الخاصة ، عندما استرجع صدى نقاشاته مع رجال اعمال اوربيين عن ميزات الشعب الليبى الطيب ايام الستينات ومدحه لنقاء لليبييى تلك السنين الخضراء يزداد فهمى اكثرويتعمق ، والمؤسف اننى فى فترة لاحقة كنت كلما جلبت مجموعة من السواح برفقة الشركات التى عملت معهم كوسيطة صفقات اشعر بالحزن على تردى الخدمات السياحية من حيث المبانى والمنشأت والطاقات البشرية ..
كنت اردد لهم باننا بلد نحاول ان نستفيد ونصنع فارقا فى المستقبل ، لم أشاء مناقشة مشاكلنا مع سواح اغراب رغم معرفتى لادراكهم لمشاكلنا ...مدينة سوسة او كما يطلق عليها أبوللونيا فى الفترة الاغريقية نسبة إلى الإله أبوللوالاغريقى ، تقع على الساحل مباشرة وتبعد عن شحات بحوالى الربع ساعة ، فالامكان النزول من كريني " شحات " الواقعة على هضبة الجبل الاخضر الثانية الى سوسة الساحلية عبر طريق جبلى ملتوى كافعى ، مانحة لكل العابرين متعة بصرية فالبحر والجبل يمتزجان فى الصورة التى لن تمحى ابدا من الذاكرة ..الطريق بين المدينتين الاغريقيتين فيه ظاهرة استكاتيكية غريبة تتمثل فى احد منعطفات الطريق تجد نفسك فى وضع السيارة تكون فيه متجه للاعلى بينما الطريق تنحى الى الوراء ..كثيرا ما قمت انا واشقائى بتجربة هذه اللعبة منذ علمها لنا بابا رحمه الله ، فالسيارة تتحرك الى فوق بدل ان ترجع الى الاسفل وبدون اى جهد من السائق ....كانت ابوللونيا الميناء الذى تقوم من خلاله كرينى بالاتصال بالعالم الخارجى ، وقد تم الاستفاد منه منذ انشاء كيرينى فى القرن السابع ق.م ، الا انها لم تستقل عنها الا فى القرن الاول ق.م . شهدت المدينة فترات ازدهار خاصة مع اعتبارها عاصمة للاقليم المدن الخمس ( شرق ليبيا ) فى الفترة المسيحية ، فقد كشفت المعاول الاثرية عن عدة كنائس مزدانة بالرخام والفسيفساء يؤومها المسيحيين بالمدينة ، كما ضمت مسرح دائرى من الفترة الهللينستية حيث يستطيع المتفرجون التمتع بالمشاهد المسرحية وبرؤية البحر معا ً فى آن واحد، وحمامات ترجع للفترة الرومانية ، ومبانى سكنية للمواطنين ، ولعل قصر الدوق هو اشهر تلك المبانى العامة وهو مقر لحاكم الاقليم فى الفترة المسيحية...مايميز المدينة الاثرية هو وجود جزء كبير من مبانيها مغمور فى مياه البحر ، لتعرضها لاكثر من زلازال مدمر ، وميناءها هو مايهمنى اكثر شىء فانا اواصل ابحاثى عليه ، فربما يكون موضوع دراسة لنيل درجة الدكتوراه ، وهذا مايجعلنى اتردد على المدينة فى شهر اغسطس وسبتمبر مشاركا ً فى موسم الغطس ..
..كما اهتم قبلى مجموعة من الرحالة الغربيين الذين حاولوا تقديم وصف مفصل للميناء الشهير ...السكان فى الوقت الحالى هم فى غالبيتهم متعلمين وبعضهم تخرج من جامعات غربية راقية وحاصلين على درجات علمية ، هم فى غالبيتهم من قبيلة الحاسة وهى اصغر القبائل المنتمية الى الحرابى... واما فى الزمن القديم كانت قبيلة الاسبوستاى الليبية تنتشر فى تلك الأراضى ، حيث امتزجوا مع الاغريق المهاجرين ممثلين عنصر فاعل فى الحضارة الهلينستية الراقية ، كانوا يربون الخيول ويشتهرون بقيادة العربات التى تجرها أربعة خيول ، بالإضافة الى جمعهم محصول السلفيوم ...وقيامهم بالصيد البحرى ...وعرُفت فى الفترة المسيحية باسم سوزوسا ومنه جاءت التسمية الحالية ، كما كانت فى العهد البيزنطى مقرا ً لأسقفية حيث مارس فيها الاسقف سونسيوس الشهير مراسم العبادة .. وظلت المدينة قائمة بعد الفتح الاسلامى لليبيا ، ثم تعرضت الى الهجران والاهمال تدريجيا ً والاسباب غير واضحة تماما .. وفى فترة الحرب اليونانية التركية سنة 1898 عادت الحياة تدب فى المكان نتيجة لتهجير الكريتيين إليها بسبب النزاع المدمر بين الطرفين ،حيث قامت الحكومة العثمانية بترحيل قسم من السكان المسلمين الكريتيين الى برقة مانحتهم سوسة لتوطينهم فيها ، ولم يكن يسكن الموقع الذى كان يرسو به من حين إلى آخر بعض التجار اليونانيين سوى عدد قليل من عائلات القلابطة احد فرع قبيلة الحاسة..وقد أنشأت الحكومة العثمانية للمهاجرين الكريتيين والفقراء منهم خاصة بعض المساكن التى استقروا بها كما منحتهم أراضى لزراعتها ...ومع الغزو الايطالي لبلادنا وقعت سوسة فى ايدى المستعمرين الذين وجدوا فيها مكان يخلب لب الزائرين ، حيث عملوا على توسيع البلدة فأصبحت تنقسم الى ثلاث وحدات أو أحياء : الحى الواقع غربى الميدان الرئيسى ، وأغلب سكانه من الكريتيين ، والحى الجنوبى و القسم الشرقى وتسكنه بعض العائلات من القلابطة احد فروع الحاسة..من ميناء سوسة اقلعت السفينة الحربية التى اقلت الشيخ الاسد الى مدينة بنغازى لمحاكمته ،وكم حاولت البحث عن المبنى فى كل مرة اكون فيها فى المدينة ، وقد اشار مرة احد معارفى لمبنى البلدية على انه هو الذى تم استخدامه ، والموجع ان معظم المبانى الايطالية تعرضت للاهمال والتخريب والتغيير ولم افهم ماالسبب فى تلك السياسة الغبية ففى كل دول العالم المتطور يحافظون على تلك المبانى ويحولنها الى مزارات سنوية الا لدينا ..
بدأت الحفريات الايطالية فى المنطقة فى عشرينيات القرن العشرين حيث تم التنقيب عن الكنيسة الشرقية ، واستمرت فى العهد الملكى وحتى وقتنا الحالى البعثات الاثرية وسط اهتمام متزايد من علماء من كافة بقاع الارض ، واهمال رسمى من الدولة للاسف الشديد للحفاظ على تلك الممتلكات القيمة ....سكان البلدة الصغيرة يعيشون على دخولهم من الزراعة وعلى وظائفهم الحكومية ، ويوجد بسوسة معهد للتدريب والتعليم للمهن الفندقية والسياحية لم يستفيدون من توظيفه لخلق فرص لشباب وشابات المدينة الجبلية ، فرغم ميزاتها الطبيعية والثقافية فسوسة مهمُلة كغيرها من مدن الجبل ...اصبحت المبانى الحديثة تزحف على كل مكان مهددة القبور والمبانى الاثرية المحيطة بالمكان لعشوائية التخطيط والتنفيذ..للمدينة متحف تم افتتاحه فى العام 1929 لم يكن يسمح الا للباحثين بالتردد عليه ثم صار مفتوح للزوار دون استثناء ، وللاسف الشديد المتحف يتحتاج لترميم والتطوير للحفاظ على مايحوى من مقتنيات ثمينة، يمكن ان يكون ضمن الامكان التى تجلب مدخول كبير لبلدية المدينة ..
كنت اجلس لاسجل هذه الانطباعات والافكار فى بهو الفندق بعد عودتى اليه لاداء صلاة العصر منتظرة شقيقى امون ، لتناول غداء متاخر فى مطعم قريب ، هناك واصلنا النقاش حول ما قام بانجازه وما يمكن ان نفعله بقية النهار، عدت من جديد لمبنى مراقبة الآثار لجمع معلوماتى ومزيد من التقارير منتظرة كريستين التى حضرت مر عام على اخر مرة التقينا فيها ، كانت فتاة تصغرنى فى السن ،حاصلة على درجة الدكتوراه ، كنت كلما التقيتها ابتسم على مفارقة الدراسة فى عالمنا العربى ، ولو فكرت فى الدراسة بفرنسا يمكن ان تكون المشرفة على اطروحتى ، هكذا كانت تعرض علي فنحن منسجمتان ، ومتفاهمتان فى ما يخص الجوانب العلمية والانسانية ايضا ...غادرت عائدة الى الفندق من جديد ، والشمس تغطس فى البحر وكانها قطعة سكر ملونة ..كنت اردد لنفسى بيت شعرى لم اتذكر من قائلها رغم شهرته: أرأيت سوسة والاصيل يلفها ..بدات الحركة فى المدينة تخف ، بعيدا كانت تسُمع انغام مزمارجبلى يتردد صداه فى الشوارع الهادئة ، مثيرة مشاعرى فكنت افكر فمن يكون العريس والعروسة وهل تزوجا عن قصة حب ام لايعرفا بعض ؟ رغم انه فى الجبل الاخضر قصص الحب انجح من اهل المدن ، وهذه الملاحظة عندما دققت فيها عبر الوقت ، وجدتها تنطبق بنسبة كبيرة ، رغم صرامة التقاليد الا انها لا تمنع ان اعلان فلان اعجابه ورغبته بفلانة حيث يصبح ذلك الاعلان بمثابة خطبة شفهية غير رسمية بين الطرفين ، كما ان نسبة الزواج مرتفعة بين الشباب لقبول الكثير من الفتيات مشاركة اهل الزوج فى بيتهم ، وبذلك تحل مشكلة السكن ...فى السابق كانت الزيجات تتم داخل العائلات المتقاربة ، والان صار بالامكان لبنات المنطقة الزواج من خارج القبيلة ، خاصة مع ارتفاع نسبة التعليم الجامعى ...يشتهر شباب وشابات المنطقة بجمال فريد ، فهنا اختلطت دماء واعراق كثيرة ..
....ما يروى عن تاريخ المدينة فى الحقبة الاستعمارية الكريهة قيام الليبين بتزويج بناتهم فى سن صغيرة حمايا ً لهن من الجنود الايطاليين الذين صاروا يتقدمون خاطبين من اسر الجميلات فيهن ...فيذكر عن شغف احد كبار القادة الايطاليين باحد فتيات قبيلة الحاسة فتقدم خاطبا ً فلم يجد اهلها من حل سوى تهريبها الى منطقة اخرى ...تاريخ المنطقة يمتلىء بالقصص عن معارك بين المجاهدين والايطاليين ن هنا قتُل سيدى الفضيل بوعمر احد كبار قادة حركة الجهاد الليبى بالجبل الاخضر ن واحد المقربين من سيدى عمر المختار ، ويمكن مشاهدة النصب التذكارى الذى اقيم فى فترة لاحقة منتصبا ً على سفح الجبل الاخضر المحيط بسوسة ...
وصلت الى باحة الفندق لاجد شقيقى امون ينتظرنى لكى نغادر الى بلاغراى حيث سنبيت ليلتنا عند اخى الكبير آبيه " ...كنا نغادر سوسة والليل يلفها والقمر بدرا .. فتحت نافذة السيارة لاستمتع بالنسمة الباردة منصتة لازيز الحشرات وهسهسة اشجار الكافور ..توقفنا عند مقهى صغير يبيع الشطائر والسندوتشات اللذيذة فى مدخل مدينة كرينى .." ايوه يا امونا احسن ما نتعبوا سوسو مرات آبيه ، انت عارف وضعها الصحى هلا الفترة ، على الاقل توا نشربوا معهم شاهى ونهدرزوا " .. توقفنا امام بيت اخى الكبير على قرابة الساعة ال10ونصف ليلا ً، بعد ان اتصلنا بآبيه لكى نعلمه بوصولنا ، خرج آبيه راكضا ً على الدرج تسبقه بناته ..آبيه اخى لابى من زواج سابق لم يستمر الا بضع اشهر كان ثمرته هذا الأخ الرائع ، الذى خرج علينا ساخطا ً : " باهى كنتوا تغديتوا ومشيتوا ياسى ، شنوا الدينا بتطير ، ولاالله حتى فطرتوا " ..مابين قبلات البنات وكلمات آبيه الغاضبة وصدى الضحكات يتردد فى ليل بلاغراى الهادىء دخلنا الى البيت حيث وجدنا سوسو بانتظارنا بابتسامة عريضة على وجهها ، فأنا وهى نرتبط بصداقة رائعة ، كم احبها وارتاح فى صحبتها ، ولا احتمل لحظة الم تمر عليها فهى طيبة القلب وحنونة ، نوع من الناس لم نعد نجده كثيرا ، وهى فتاة جميلة جدا ومن اسرة محافظة من اسر البيضاء ..احب محبتها لزوجها وبناتها وبيتها ..جلسنا حتى ساعات الفجر نتحدث ، ثم تركتنى لتنام فهى وضع صحى مرهق قليلا ،فهى تنتظر ولادتها بين يوم وآخر ..
.. جلست بعد صلاة الفجر لاكتب قليلا فقد عجزت عن النوم،صديقتى زينا ونييديوا كانتا ببالى وانا ادون مابخاطرى من معلومات وملاحظات ، ... الهدوء يلف المدينة الجميلة ذات المناخ الصحى ...نعم انها بلا غراى او بيضائى مدينتى التى لا يعادلها اى مدينة فى عشقى لها الا لندن .. مع شروق الشمس نمت قليلا حتى الساعة ال10 ، لأستيقظ على بنات اخى وهن يجلسن على رأسى محاولات ايقاضى باى طريقة لالعب معهن ، هنو وياسو الصغيرة التى سماها آبيه على اسمى من شدة الارتباط بينى وبينه ..كن يركضن هنا وهناك وانا نصف نائمة اواصل حديثا مع سوسو ، متناولة افطارا ً خفيفا ً ...غادرنا بلاغراى ظهرا بعد ان مررنا على مقام سيدى رويفع الانصارى حيث صلينا فيه صلاة الظهر ، ثم انطلقنا عائدين الى بنغازى التى وصلنا على آذان العصر ...