الأربعاء، 24 ديسمبر 2014

الفن فى أزمنة الحرب ..


"..لا نستطيع أن نتخيل كم هي الحرب مخيفة، مرعبة، وكيف تصبح شيئاً عادياً. لا نستطيع أن نفهم، لا نستطيع أن نتخيل" ... سوزان سونتاغ



دخلت اسبانيا مع بدايات القرن التاسع عشر مرحلة من الاضطرابات والحروب والعنف والمجاعات بعد تعرضها لغزو فرنسى فى العام 1807 م إذ نجحت مكائد ودسائس نابليون بونابرت –الطامح للسيطرة على اوربا- فى الاطاحة بحكم شارل الرابع وتتويج فرديناند السابع مكان والده ،ثم القيام أن يتم بخلعه عن العرش و نفى شارل الرابع وفرديناند السابع إلى إيطاليا وفرنسا ، وتنصيب أخاه جوزيف ملكا ً على أسبانيا .

لم يخلو دخول المحتل الفرنسى من ترحيب نسبة كبيرة من الاسبان لاعتقادهم بأنهم حملة مشعل التنوير والتحرر من الطغيان و الرقابة ومحاكم التفتيش وفساد الأسرة البوربونية الحاكمة أنذاك ، ولكن سرعان ما تغيرت مشاعر الاسبان بعد معرفتهم لتنصيب جوزيف بونابرت على العرش الاسبانى .

وفى الثانى من مايو عام 1808 ذاع بين سكان مدريد خبر صدور أمرا ً بإرسال ماتبقى من أفراد الأسرة المالكة فى مدريد إلى فرنسا ، فتجمع الأهالى حول مركبة الدون فرانسسكو-وهو أميرفى 13 من عمره- وعندما علموا أنه لايرغب فى مغادرة مدريد ،وأنه يبكى بكاء مرا ً لمعرفته بأنه سينفى، قام الأهالى بفك أعنة جياد المركبة و أطلقوا  سراح الجياد ، و إزاء هذا قامت القوات الفرنسية بالهجوم على الأهالى مستخدمة المدافع والبنادق ، فقاوم المدريديين بالهراوات و الأحجار والسكاكين ، لتنتشر الانتفاضة الشعبية العفوية بين سكان المدينة ، ولتعيش اسبانيا إحدى أكثر مراحلها اضطرابا ً وقتلا ً ورعبا ً ،  قبل أن ينجح الفرنسيين فى اخماد هذه الحركة ، واعدم زعماؤها  والكثير من السكان ، ليصبح بعدها اليوم الثانى من مايو نقطة تحول لدى الوطنيين للتخلص من المستعمر الاجنبى .
  و نتيجة للاشتباكات والمواجهات التى أخذت طريقة الكر والفر من طرف المحاربين من المتطوعين الأسبان أو الجنود النظاميين المتبقيين من الجيش الاسبانى ، مما أوقع خسائر كبيرة فى صفوف الجنود الفرنسيين .

 انتشرت المجاعات في كل مكان بأسبانيا التى كانت تعيش أزمات اقتصادية قبل الغزو الفرنسى حيث تفاقمت المشاكل آثر هذا الاحتلال ،  فعاشت اسبانيا ست سنوات من أحلك فترات تاريخها. ولم ينج أي أسباني من انعكاسات الغزو والحرب والجوع على نفسيته ، فماذا كان موقف "فرانشيسكو دى جويا" الفنان الاسبانى الشهيرو كيف انعكس هذا الواقع القاتم على نفسيته وافكاره وأعماله الفنية ؟

***
كان جويا أحد المرحبين بالتدخل الفرنسى فى الشؤون الداخلية لبلده ظنا منه إن الفرنسيين سيجلبون "التنوير" الذى سيخلص اسبانيا من الخرافات والجهل و سيطرة الكنيسة ومحاكم التفتيش على عقول وحياة الناس فى أسبانيا ، إلا إنه سرعان ما أدرك زيف مزاعم بونابرت فى نشر التنوير والحريات فى أوربا ، فقد حل على البلاد من الدمار والمهانة مالم تشهده فى السابق .

نجحت لوحات "فرانشيسكو دى جويا" فى نقل صورة دقيقة ، وحية ، ومؤثرة عن هذه المرحلة الدموية من تاريخ اسبانيا ، وما ارتُكب فيها من فضاعات وجرائم مروعة بحق الجميع من أطفال ونساء وكبار فى السن ، ورجال دين ، او ناس مدنيين .

فى متحف برادو يوجد لوحات جويا التى تعبر عن الفزع وحالة الترقب ، والوحشية التى أظهرها الفرنسيون فى إعدامهم الأهالى يوم 2 مايو .

لم يطلق جويا رصاصة واحدة او يشارك فى القتال ولكنه عبر عن روح أمته فى المقاومة خير تعبير ، مظهرا ً ماقاسته فى ذلك الوقت ، وكان قد أقام بمدريد عدة أعوام عندما نشبت الحرب ، ولكنه عاد لسرقسطة  حيث قام بعمل رسوما تخطيطيا ً صغيرة ليتم حفرها وطباعتها  ، وقد سماها" العواقب القتالية لحرب إسبانيا الدموية مع بونابرت ، و غيرها من النزوات " حيث احتوت على تعبيرا ً لاينسى عن الفزع و السخط و العطف التى عبر بها جويا عن الحرب بكل تفاصيلها الفظيعة .

ولم تنشر هذه الرسومات فى حينها حيث أوصى بها لولده الوحيد ، الذى باعها ابنه لأكاديمية سان فرناندو ، والتى نشرتها عام 1863 بعنوان "كوارث الحرب ".

لم تكن هذه الرسوم التخطيطية مجرد مشاهد عادية للمعارك ، يُمجد فيها القتل فى ثوب البطولة والمجد ، وإنما هى لحظات من الرعب والقسوة تنسى خلالها ضوابط الحضارة الهزيلة فى حمى الصراع ونشوة الدماء .

ومن أشهر لوحات هذه المجموعة اللوحة المسماة " الرجل المخنوق" وفيها نرى قسيسا ً خُنق حتى الموت ، مستندا ً لجدار وقد جمدت يداه إلى صليب عليه صورة المسيح مصلوبا ً ، وفى لوحات أخرى من نفس المجموعة رجال ونساء يواجهون طعنات رماح البنادق ، أو يرقدون جثثا ً هامدة ، وقد قلبتهم انفجارات القنابل رأسا ً على عقب ، نسوة يهرعن للمعركة برماح او بنادق او حتى حجارة ، جثث تغرس فوق جذوع الأشجار ، ونساء تهتك أعراضهن ، وأطفال يرقبون فى هلع قتل أبائهم ، راهبات يتعرضن فى الأديرة للاعتداء عليهن من قبل الجنود ، وأكداس الموتى يقذفون فى حفر ، ونسور تستمتع بالتهام الموتى من الآدميين ، طوابير الجائعين وهم يتساقطون موتى .

تحت هذه الصور أضاف جويا تعليقات بعضها مستقاة من أمثال أسبانية تعكس سخرية مريرة من تلك الفترة  (هذا مارأيته) ، (لقد حدث هكذا) و (ليدفنوا الموتى ويلزموا الصمت) وغيرها من عبارات مدونة تحت الصور الأصلية .

من اللوحات المؤثرة برأيى الشخصى هى تلك التى تتضمن توثيق للمجاعة التى عصفت بمدريد فى الفترة مابين اغسطس 1811و اغسطس 1812 ، حيث مات نتيجة لهذه المجاعة 20 ألف من سكان مدريد نتيجة اعتراض المحتلين الفرنسيين والثوار الإسبان وقطاع الطرق واللصوص الطرقات المؤدية لمدينة مدريد مما تسبب فى شح المواد الغذائية .

حاول جويا اليائس و المتعب من مرضه وصممه وتجاربه السىء فى فترة الحرب أن يعبر عن أمله فى نهوض أسبانيا من جديد فقدم فى اللوحة التى تحمل رقم 80 امرأة تموت بين الحفارين والكهنة ولكنها تشع ضياء ، وكتب عليها متسائلا ً (أتبعث حية مرة أخرى ؟) .

من يقف إمام لوحات جويا سيكتشف أنه لم يعمل على تجميل الرعب أو تقديم مشاهد بطولية للحرب ، و لكن يقدم بدلا عن ذلك الكيفية التى يتحول بها أفراد عاديين إلى أبطال ربما لايذكرهم التاريخ لانهم من عامة الشعب ممن حملوا سلاحهم دفاعا عن أنفسهم وبيوتهم واسرهم ، كما قدم لنا العنف والحرب وماينتج عنهما من فضائع ومآسى تترك بآثارها على حياة الناس العاديين ، سلط الضوء على تساوى القسوة والشراسة لدى الطرفين مع انفلات العنف والوحشية من عقالهم ، ونسيان القيم الانسانية إمام الجرائم الوحشية و أهوال الحروب .

***
ولد غويا عام 1746 بمدينة صغيرة بمقاطعة آرغوان ، وقد أمضى سنوات حداثته فى دراسة الفن على أيدى فنانى مدينة سراقسطة قبل أن يحاول الدخول لأكاديمية الفنون فى مدريدولكنه يفشل فى ذلك ، وبالوقت نفسه ينجح فى الحصول على منحة لدراسة الفن فى إيطاليا ، ثم يقيم بضع سنوات بفرنسا حيث يقع تحت تأثير افكار كبار مفكرى عصر التنوير الفرنسيين أمثال رسو و مونتسكيو ، و يصبح الرسام الرسمى لبلاط الآسبانى حتى وفاته عام 1828 فى منفاه الاختيارى بمدينة بوردو الفرنسية ، بعد أن يترك سلسلة اعمال فنية تشكل شهادة عميقة على فترة حالكة فى تاريخ اسبانيا وأوربا ، فترة محاكم التفتيش والغزو الأجنبى وعودة الملكية من جديد .
Plate 3: The Same

Plate 15 – There’s no help for it



Plate 41 – They escape through the flames






Plate 80 – Will she live again?
Plate 18 – Bury them and keep quiet

السبت، 29 نوفمبر 2014

أسرار صغيرة ..


لست من هواة مشاهدة برامج المسابقات ، لهذا لم أتابع يوما برنامج "الحلقة الاضعف" الا عبر لقطات سريعة ، فالأسلوب  الغريب لمقدمة البرنامج "ريتا خورى" فى ذلك البرنامج استوقفنى لبعض الوقت ، سرعان ما نسيت البرنامج ونسيتها، لتفاجئنى عبر كتابها الأول المعنون باسم "أسرار صغيرة" بشخصية مختلفة تماما عن تلك التى ظهرت بها ريتا فى ذلك البرنامج.

وهذا الكتاب هو فى الاصل مجموعة تدوينات سبق لريتا كتابتها ونشرها فى مدونات قامت بأنشائها مابين اعوام 2006- 2011 لتقوم ريتا بجمعها فى الكتاب الصادر فى العام 2012 عن (دار بلومزبري ـــ مؤسسة قطر للنشر).

انهمكت فى قراءة الكتاب فور حصولى عليه لاكمله فى ساعات قليلة ، ثم اضفته لقائمة كتبى المفضلة ، كما صرت احمله فى حقيبتى لاعيد قراءة بعض الأجزاء فى اوقات الانتظار الطويلة بالعيادات والمصحات ، وحيث أصبحت ريتا رفيقة جيدة ومسلية بقصصها وتدويناتها وتأملاتها حول الحياة ومافيها .

كانت ريتا تتحدث من خلال اسم مستعار "رات " وهو اسم التدليل الذى يستعمله المقربين منها ، كانت تشعر وقتها بحرية كاملة وهي تكتب دون أن يعرفها أحد، متحررة من قيود الشهرة، والقيود الإجتماعية ، و بطريقة سلسة وجميلة فيها جرأة وشجاعة كبيرة فى طرح آرائها وأفكارها  ، حكت عن علاقتها  بوالديها وزوجها ، ذكريات وحكايات الطفولة ، عن مشاكلها اليومية ، افراحها واحزانها ، و همومها ، وتساؤلاتها الوجودية.
 
تحت عنوان "أسرار صغيرة " تتحدث عن ولعها بكتابة اليوميات فى دفاتر أنيقة تليق بأسرارها الصغيرة ، لتستبدل الدفاتر بمدونات مارست عبرها البوح بأسرارها ، وعبر الكتابة تحاول التغلب على مشكلة الخوف الاجتماعى ، فقد عاشت لسنوات خارج لبنان وعندما عادت انكفأت على نفسها مما دفعها للبحث عن مفاتيح للتعامل مع الحياة فى بيروت ، كما نكتشف أنها تكتب كى تتخلص من الألم ، من أوجاع وجروح الماضى ، وورغم معرفتها عن صعوبة الحصول على أجابة عن سؤال من أنا عبر تدوينة مركزة تحمل عنوان  "من أكون" تحاول استعادة ماضيها كطفلة ومراهقة وشابة فى بدايات العشرينات من عمرها  ، وتقول عن ذلك "أصعب الأمور مواجهة الأنسان لذاته ولذاته" .

تعترف ريتا بمنتهى البساطة بأنها زارت عيادة المحلل النفسي للمعالجة لسنوات طويلة ، كما تكتب رسالة بوح واعتراف جميلة لوالدها الراحل تحت عنوان " أبى الذى ، مبدئياً، فى السموات" تقول : "..لم تُتح لى فرصة التحدث إليك عن هذه الأمور ، كما أنك رحلت من دون إنذار، تاركا ً أحاديث معلقة على حبال الغياب .." .

تحكى لنا عن انطباعاتها كطفلة عن الموت والجنة آثر وفاة جدها ، عن معلومات طريفة وغرائبية ترسخت فى ذاكرتها الطفولة حول هذا الموضوع الماورائى .

تحدثنا فى الكتاب عن علاقتها المتأرجحة بوالدتها منذ طفولتها المبكرة إذ تذكر مدى تأثرها بسماع والدتها تردد للمعارف عن لحظة رؤيتها لريتا فور ولادتها وكيف طلبت من المحيطين بها بالمستشفى أن يبعدوا الطفلة ذات الشعر الداكن والمظهر القبيح عنها ، تقول ريتا عن ذلك :"...كان الناس يضحكون لهذه القصة ، بينما أتمزق من الداخل، لم أفهم سبب رفضها لى، خصوصا أنه لاحيلة لى فى مجيئى  إلى هذا العالم .." .

عندما تكبر وتكتسب بعض الخبرة فى الحياة تحاول ان تجد تفسير ومبررات لسلوك وتصرفات والدتها ، فتعترف بأنها احتاجت لسنوات طويلة كى تكتشف أن والدتها كانت امرأة لها عذاباتها وآلامها الخاصة ، حيث تنجح فى التخلص من مشاعرها السلبية تجاه ماضي علاقتها بوالدتها.

فى نصوص متخيلة على لسان حاسوبها الشخصى  تحدثنا على لسان جهازها الشخصى عن مشاعرها واهتماماتها المتقلبة بمواضيع بعضها يحمل طابع الغرابة والطرافة معا ، إذ تسعى للحصول على منملة لتربية النمل بعد قراءتها لثلاثية للكاتب" برنارد فيبير" ، عن علاقتها بزوجها وبأسرتها .

لا تخجل ريتا، من التكلم بصراحة عن التقلبات فى علاقتها بزوجها الذى يعمل ويقيم فى باريس ، ماجعلها تغادر بيروت منذ عام 2006 .

كما تشاركنا بتفاصيل علاقتها بأبنة زوجها المراهقة ، وعن الكتب ، والسينما ، فنتعرف على افلامها المفضلة ، وعن كتابها المفضلين ، وأطعمتها المفضلة ، و رحلاتها و بعض الأماكن التى زارتها.

فى نصوص أخرى تروى لنا أسرار جرائم طفولة بريئة ، وتحدثنا عن فترات كآبة وانكفاء على النفس مرت بها ريتا ،قد يكتشف بعضنا قد سبق له المرور بمثل هذه الأوقات والتجارب السيئة .

ويفيض الكتاب بالكثير من الأحاسيس والمشاعر، والهواجس والمخاوف ، والاعترافات والتأملات .

قامت ريتا بتسجيل بعض النصوص من الكتاب بصوتها، وقد استمتعت بالاستماع للنصوص المختارة إذ أضفت مسحة جميلة عليها، اخترت هذا التسجيل الطريف حول اختراع السعادة 

https://soundcloud.com/rita-khoury/jopkfk3fo5yi

بدأت ريتا خوري مسيرتها الإعلامية في برنامج للهواة عام 1988 حيث شاركت عن فئة تقديم البرامج، ثم انتقلت إلى إذاعة الشرق في باريس، حيث قدمت خلال عشر سنوات من عملها هناك مجموعة من البرامج الثقافية والاجتماعية والفنية، ثم عملت فى بعض المحطات الهربية فى أوربا ، قبل أن يُعرض عليها تقديم النسخة العربية من برنامج المسابقات العالمى"الحلقة الأضعف" ، ثم قدمت برامج اجتماعية مثل "يوميات"و"حكايا الناس" و"سوالفنا حلوة".


الخميس، 27 نوفمبر 2014

بينما ينام العالم ..


"كيف يمكن ألا يستطيع الإنسان أن يسير إلى ملكه الخاص؟ أن يزور قبر زوجته؟ أن يأكل ثمار أربعين جيلاً من كدح أسلافه من دون أن يعاقب بالموت رمياً بالرصاص؟ على نحو ما، لم يكن هذا السؤال الفجّ القاسي قد نفذ سابقاً إلي وعي اللاجئين الذين شوشتهم أبدية الانتظار، معلقين آمالهم على قرارات دولية نظرية "
                                                                                         الجد يحيى أبوالهيجا
                                                                          * * *



بدأت حكاية هذا الكتاب فى العام 2002 بعد الاجتياح الاسرائيلى للضفة الغربية ، وارتكاب مجزرة وحشية جديدة بحق سكان مخيم جنين بحجة وجود مسلحين ارهابيين ، فسوزان أبوالهوى المقيمة فى الولايات المتحدة الامريكية ، والمنتمية إلى أسرة من لاجئى حرب 1967 تحضر إلى المخيم كأحدى أول المراقبين الدوليين الواصلين الى مخيم جنين، حيث تستمع إلى الحكايات وتلملم ذكريات القاطنين المتبقين على قيد الحياة ، ومن الناجين من النكبات المتوالية على أبناء شعبها فى مدن ومخيمات منتشرة داخل فلسطين وخارجها ، لتعيد تقديمها ضمن حكاية منسوجة لتقدم من شخصيات خيالية ممزوجة بوقائع تاريخية عرفناها من كتب التاريخ او صرنا نتابعها فى الاعوام الأخيرة عبر الفضائيات و الشبكة الدولية"الأنترنت".

تروى لنا تاريخ فلسطين و النكبة التى حلت بشعبها عام 1948 من خلال حكاية أسرة فلسطينية ومصائر اربع أجيال منها، وكيف انقلب عالمهم رأسا على عقب على أيدى غرباء جاءوا من كافة بقاع الأرض أثر حصولهم على وعد بمنحهم وطن على أرض شعب يعيش عليها منذ قرون طويلة .
مخيم جنين عام 2002








 كان للكتاب رحلة طويلة قبل الوصول إلى الشهرة فى أوساط النشر باللغة الأنجليزية ، إذ نُشر فى البداية من خلال دار نشر صغيرة فى الولايات المتحدة الامريكية فى العام 2006 تحت عنوان "ندبة دافيد" ، وقد وُزعت نسخ قليلة من الكتاب قبل أن تفلس دار النشر وتعلق أبوابها بعد ذلك بفترة قصيرة ، ولكن ناشرا ً فرنسيا ً غامر بترجم الرواية إلى الفرنسية وطبع تحت عنوان"صباحات جنين" ، لتنطلق شهرة ورواج الكتاب فى المكتبات الأوربية ، حيث جذب انتباه دور النشر الانجليزية ليصدر فى الأنجليزية عام 2010 عن دار نشر بلوومزيرى فى طبعة جديدة ومنقحة تحت عنوان "صباحات جنين"  حيث أصبح أحد أكثر الكتب مبيعا في المملكة المتحدة ، كما تُرجم إلى 23 لغة ، كما لاقت تقديرا نقديا كبيرا فى الملاحق الأدبية والصحف الأنجليزية ، و تم التوصية بقرائته ضمن نوادى الكتب فى المملكة المتحدة ودول غربية كثيرة ،و لكن الطريف أن السلطات الأردنية منعت بيع النسخة العربية من الرواية و مقابل السماح بتداول النسخة الانجليزية، وذلك لأشارة الكاتبة لدور الملك الراحل الحسين فى التآمر على القضية والمقاومة الفلسطينية ، فقد استوقفتنى بضع عبارات وضعتها الكاتبة على ألسنة ابطالها فى تقدير وتقييم دور الراحل عرفات ومنظمة التحرير الفسلطينية ، فيوسف يرى عبثية بعض قرارات الختيار"ياسر عرفات" فى بعض مراحل الكفاح المسلح الفلسطينى ، كما لا تتوانى عن تعرية الانظمة العربية فى التآمر على الشعب الفلسطينى والمساهمة فى تضييق الخناق عليه .
غلاف النسخة للانجليزية من الرواية

وقامت المترجمة الفلسطينية "سامية شنان تميمي" بالترجمة إلى العربية، وتقع في 482 صفحة متوسطة القطع وأصدرتها دار بلومزبري مؤسسة قطر للنشر .

                                                       * * *
تتناول هذه الرواية القضية الفلسطينية من خلال حكاية أسرة يحيى أبوالهيجا المنحدرة من قرية عين حوض الواقعة بالقرب من حيفا، حيث تتبع الكاتبة مصائر أفراد هذه الأسرة الفلسطينية خلال سبع عقود .
تبدأ الرواية من بدايات عقد الاربعينات من القرن العشرين حيث تقدم لنا "يحيى أبوالهيجا" وأسرته المنحدرة من سلالة عريقة ساهمت فى تأسيس القرية أثناء حكم صلاح الدين الأيوبى الذى قدم الأرض للآسرة أبوالهيجا لتعمرها مع مجموعة أسر أخرى ، فيتوارثون حرفة زراعة أشجار الزيتون ، و البرتقال ، والتين والخوخ واللوز ، و يزرعون الورود والأزهار فى حدائق بيوتهم .
كان "يحيى أبوالهيجا" متزوج من باسمة التى تقضى معظم وقتها فى زراعة الورود والنباتات العطرية والاهتمام بحديقة بيتها، ولديهما ولدان درويش وحسن ، يساعدان والدهما فى أعمال الزراعة والاهتمام بالأرض ، حيث سيرث "حسن" الابن البكر الأرض ليواصل دور والده فى رعايتها والاهتمام بباقى سكان القرية ، وأما الأبن الأخر فهو مهتم بتربية الخيول التى ستكون سبب فى اصابته بأعاقة دائمة أثناء النكبة .
 قرية عين حوض : منظر عام نادر في الاتجاه الغربي اُخذ بعد اغتصاب القرية 1948

 يقع حسن فى حب داليا البدوية التى تعمل فى القطاف بالقرية حيث يغرم بها ، و يتزوجها رغما عن التقاليد العائلية التى تلزم الأقارب بالزواج من بعضهم البعض ، وينشأ عن هذا الزواج ولادة يوسف البكر ، ثم أسماعيل .
تنهمك الكاتبة فى تقديم صورة مركزة ومكثفة عن حياة الفلسطينيين قبل النكبة ، عن عادات الزواج ، ومواسم القطاف ، عن الأطعمة الفلسطينية ، و النباتات والاشجار التى اهتم أهل البلد الأصليين بزراعتها ، وتوطينها فى أرضهم ، تقدم صورة عن العلاقة بين الفلسطينيين و اليهود من خلال حكاية الصداقة مع الالمانى-اليهودى "آرى بيرلشتاين"تلك الصداقة التى ستنقطع فى العام 1967م بمجرد وقوع الاحتلال الاسرائيلى لبقايا أرض فلسطين التاريخية .
تحت عنوان النكبة تروى لنا الكاتبة مصير افراد أسرة يحيى أبوالهيجا ، إذ تُقتل الام باسمة آثر انفجار قنبلة يدوية تُلقى على أطراف القرية حيث تتواجد باسمة فى حديقتها ، و يضطر يحيى أبوالهيجا للرضوح لنداءات اخلاء "عين حوض" من قبل القوات الصهيونية المهاجمة بشراسة القرية الخالية من السلاح إلا بضع بنادق عتيقة لاتصلح لمواجهة مابيد اليهود من اسلحة حديثة حصلوا عليهامن أصدقائهم وحلفائهم الغربيين .
تنتهى كارثة النكبة بضياع اسماعيل صاحب الندبة المميزة ، والتى ستكون وسيلة للعثور على اسرته الحقيقية فى مابعد ، يضيع اسماعيل او يخُتطف على يد جندى اسرائيلى ، يأخذه لزوجته، وهي ناجية من الهولوكوست فقدت قدرتها على الانجاب بسبب تعرضها للتعذيب فى المعسكرات ، ويصبح اسماعيل دافيد، يلتحق بالتجنيد فى الجيش الاسرائيلى حيث يشارك فى الكثير من المعارك ، بل يعتدى على شقيقه يوسف على احد نقاط التفتيش دون ان يعرف من يكون هذا الفلسطينى الذى يشبهه لحد يكاد يكون تؤمه.
لوحة (إلى أين) للفنان الفلسطينى الكبير اسماعيل شموط


فى الشتات تولد الأبنة "آمال" بطلة الرواية فى مخيم جنين حيث استقر الحال بأسرة أبوالهيجا ، ومن هنا تصبح آمال هى محور باقى العمل الروائى ، من خلال سردها لذكرياتها وحكاياتها لابنتها سارة سنتعرف على مصائر الام داليا ، والاب حسن ، والعم درويش ، واخيها يوسف وحبيبته فاطمة ، وصديقتها هدى ، وباقى شخصيات الرواية .
تمثل آمال الجيل الثاني من اللاجئين الذين ولدوا في المخيمات وبلاد الشتات ، حيث ستعيش جزء من طفولتها أثناء حرب عام 1967، وتصبح يتيمة الأب والأم ، وتفقد أخاها يوسف برحيله عن المخيم ملتحقا بالمقاومة فى الأردن ، وستقضى جزء من سنوات المراهقة فى ملجأ ومدرسة داخلية للأيتام ، حيث تتفوق بدراستها مما يؤهلها نيل منحة لآكمال دراستها في الولايات المتحدة فى عقد السبعينات حيث تنال الجنسية الامريكية ، قبل أن يلتئم شملها مع أخيها يوسف من جديد فى مخيم جديد هو شاتيلا قبيل حرب 1982  ، حيث تلتقى بالطبيب الفلسطينى "ماجد" صديق شقيقها "يوسف "فيغرمان ببعض ويقررا الزواج ، مع تواتر اخبار الحرب والخطط الاسرائيلية لاجتياح لبنان ، تقرر البحث عن ملجأ آمن لأسرة شقيقها يوسف المكونة من زوجته فاطمة وطفلتهما فلسطين ، و ابن لم يولد بعد ، فتسافر عائدة للولايات المتحدة الامريكية حيث تبدأ محاولات استخراج أوراق رسمية لزوجها ماجد ، و أسرة شقيقها يوسف ، ولكن القدر يعجل آمال إذ تفقد كل احبائها فيموت ماجد فى غارة على بيتهم فى حى التعمرية ، بينما يكون مصير فاطمة وفلسطين و الجنين أبشع على أيدى القوات الاسرئيلية وحلفائهم من الكتائب اللبنانية فى مجزرة مخيم شاتيلا ، وتفقد بعدها الاتصال شقيقها يوسف الذى رافق المقاتلين الفلسطينين المغادرين لتونس ، وتضع آمال طفلتها سارة حيث تكبر وهى لاتعرف الكثير عن جذورها وتاريخ اسرتها ، فى تلك الأثناء يظهر الاخ الضائع وهو يحمل عبء هوية ضائعة أو جذور مشوهة تثقل على حياته ،تنتهى حياة آمال  أمام صديقتها هدى وابنتها سارة في مخيم جنين عام 2002.

                                                    مغادرة مقاتلى منظمة التحرير الفسلطينية بيروت عام 1982

تجمع سارة حكايات وذكريات والدتها ، وكل مايخص تاريخ أسرة أبوالهيجا لتنشرها عبر موقع على الانترنت مذكرة العالم بمصير سكان وطن اسمه فلسطين لاذنب لهم فى جرائم ارتكبها الغير بحق اليهود ليُعاقبوا هم الفلسطينيين بالنفى والتشريد والشتات والعذاب طوال الستة عقود الماضية ، وفصول المأساة لاتزال متواصلة دون توقف منذ ذلك الوقت .
                                                     * * *
تقدم الكاتبة الفلسطينية"سوزان أبوالهوى" تاريخ لوطنها فى شكل حكاية انسانية ، نقترب أكثر من تأثير المناورات السياسية ، ومؤامرات الدول العظمى ، و الصفقات القذرة وضياع الأوطان على حياة الناس العاديين ، كيف تتحول أسرة ضاربة بجذورها فى تاريخ البلد ، صاحبة أراض وحقول زيتون وبيوت حجرية وحدائق للورود لأسرة لاجئة ومشردة تعيش فى الخيام ، وبيوت الصفيح تتكدس فى بقعة صغيرة من أرض فلسطين ، موطنهم الأصلى ، بينما يصبح الغريب هو المالك وصاحب الأرض والبيت ، بل ويدعى ملكية تراث وتاريخ وآثار شعب آخر .

لم تستعمل الكاتبة أسلوب تقليدية عند سرد الأحداث التى تمره بها شخصيات الرواية، إذ جعلت آمال ويوسف يتناوبان فى رواية مأساة أسرتهم ، و كل مايحيط بها من أصدقاء واقارب ومعارف ، لم يكن هناك تسلسل زمنى مرتب ودقيق ، فالكاتبة كانت تعود بآمال سنوات طويلة لطفولتها ، ثم تقفز إلى أحداث حاضرها ، قبل ان يتقاطع معها يوسف فى سرد بعض الحوادث والوقائع خاصة المتعلقة بخروجه برقفة والده لقتال الأسرائليين فى حرب 1967 ، أو فى مشاركته فى النضال المسلح مع منظمة التحرير الفلسطينية .

كانت الشخصيات المنتقاة ضمن الكتاب الروائى تقليدي لاتحمل أى مسحة تفرد من حيث تركيبتها النفسية او خياراتها او تفاعلها مع الأحداث ، ويمكن لمن قرأ اعمال غسان كنفانى او سميرة عزام و سحر خليفة وأسماء عربية تناولت قضية فلسطين أن يعثر على مثيلاتها . 

لم أشعر فى البداية بأى حماس لمواصلة القراءة بعد 30 الورقة الأولى ، إذ كانت الصور المقدمة حول حياة أسرة ابوالهيجا قبيل النكبة من تلك الشائعة والرائجة فى الاعمال الروائية الفلسطينية او العربية حول فلسطين حتى تكاد تصبح من الصور المقولبة والنمطية، و كدت اتوقف عن القراءة بعد حادثة ضياع اسماعيل إذ وجدت نفسى أمام مشهد منقول من رواية كنفانى "عائد لحيفا" ، مشاهد اللجوء جعلتنى استحضر العمل التلفزيونى الشهير "التغريبة الفلسطينية" ، لوحات الفنان الفلسطينى الكبير "اسماعيل شموط " ، كما أن حكاية مغادرة كل سكان القرية لم تكن دقيقة كما اكتشفت بعد البحث عبرالانترنت .

ربما تناول علاقة آمال بوالدها وقضائهم لساعات الفجر معا بصحبة كتاب ماشدنى لاكمال باقى الرواية ، فحرص الأب المرهق والمثقل بالهموم على مشاركة ابنته الصغيرة قراءة الكتب الأدبية التى يحب، أشعرنى بالامتنان للكاتبة لتقديمها علاقة انسانية جميلة ، ضمن ظروف شديدة الصعوبة على اللاجئين، ومن هنا جاء عنوان الرواية "بينما ينام العالم" .

اعتقد أن العنوان حمل مدلول اعمق من مجرد وصف رابطة روحية بين أب وابنة ، فهو يعكس حال الاجئين الفلسطينيين وماتعرضوا له من مجازر وحشية وفضائع على أيدى اسرائيل ، بينما ينام العالم او يغمض عينيه عن تلك الجرائم المروعة ، ويحول الضحية إلى متهم بالارهاب .

                                                                صورة الآنسة هند الحسينى ، ومدرستها الشهيرة 

أمتع أجزاء الكتاب بالنسبة إلى تناول حياة اليتيمة آمال فى مدرسة "هند الحسينى" بالقدس ، وهى مدرسة لايتام النكبة قامت الآنسة هند الحسينى-وهى شخصية حقيقية- سليلة اعرق الأسر الفلسطينية بافتتاحها لايواء وتعليم الفتيات الفلسطينيات ممن فقدن اسرهن او حتى من تعيش بالقدس ، و تروى الكثير من الحكايات و الذكريات لآمال فى تلك المدرسة الداخلية حيث تجمعها صداقة جميلة ودافئة بمجموعة من الفتيات الفلسطينيات اليتيمات ، تنتهى تلك المرحلة من عمر آمال بمغادرتها لامريكا ، ضم هذا الجزء طرائف وقصص يمكن لآى منا أن يعيشها سواء بمدرسة داخلية او عادية .

كما كانت الكاتبة بارعة فى الربط بين شهادات الصحفى البريطانى روبرتس فيسك ، وبين مصير فاطمة زوجة اخيها وأطفالهم بمخيم شاتيلا ، دون الاستغراق بشكل كبير فى تناول هذه الحادثة البشعة وانعكاساتها على حياة الناس وأحباء الضحايا .


نجحت الكاتبة فى تقديم تاريخ فلسطين خلال العقود الستة الماضية ، مستعملة لغة رشيقة وجميلة ومكثفة ، دون الاثقال على القارىء الغربى او حتى العربى بتفاصيل ووقائع تاريخ الاحتلال الاسرائيلى لارض فلسطين وتشريد شعبها، وما ارُتكب بحقه من مجازر وجرائم تصنف بأنها ضد الانسانية ، إذ ركزت على محطات رئيسية وهامة ، ممااعطى للقارىء الغربى فكرة جيدة وكافية لانطلاق منها للبحث حول تاريخ الصراع الفلسطينى-الاسرائيلى.