الخميس، 28 يناير 2016

زيارة د.مصطفى محمود لواحة غدامس صيف العام 1969..




يتضمن كتاب "مغامرة فى الصحراء " للدكتور مصطفى محمود انطباعاته عن رحلته لمدينة غدامس الليبية حيث يسرد الكثير من المعلومات حول تاريخ مدينة غدامس و موقعها الجغرافي و عن سكانها وعاداتهم وتقاليدهم والحكايات الشعبية و عن المطبخ و الضيافة لدي الغدامسيين، وعن الحياة زمن القوافل و فى العصر الحديث ، ولمحات من تاريخ المدينة الصحراوية زمن الحكم العثماني و الاستعمار الإيطالى والحرب العالمية الثانية وماتعرضت له الواحة الجميلة من مآسي وكوارث نتيجة لتحولها لساحة حرب واقتتال بين الفرنسيين والإيطاليين.

***
تحت عنوان "الجنة درجة حرارتها 48 " يبدأ الدكتور مصطفى محمود فى سرد رحلته إلى مدينة غدامس الواقعة بالقرب من الحدود الليبية الجزائرية ، تلك الرحلة التي يصحبه فيها الكاتب الليبى على مصطفي المصراتي فى صيف العام 1969 م ، حيث يصف الدكتور محمود المظهر العام للواحة الجميلة من نافذة الطائرة " ..من نافذة الطائرة كانت تبدو الرمال المترامية بلا حدود تلمع فى وهج الشمس كمقيص من الذهب تعلو فيه التلال كنهود مكورة خمرية فى رسم سيريالي خرافي من تلك الرسوم التى يرسمها سلفادور دالي...وراحت الطائرة تهتز مرة أخري وتسقط كأنها تهوي إلى قاع بئر ثم ترتفع وتنتزع أحشائي فى كل مرة ..ومال الأخ المصراتي على النافذة مشيرا ً بأصبعه : أتري هذه النقطة الخضراء ؟ هذه غدامس..لؤلؤة الصحراء كما يسمونها ..فى هذه النقطة تاريخ أربعة آلاف سنة من الحضارة ..". 

فى لقاء الدكتور مصطفي محمود بمتصرف المنطقة الشيخ ونيس الدهماني تطرق الحديث بينهما إلى عديد من الموضوعات من بينها طرح سؤال عن إحصائية بالحوادث فى غدامس فى السنوات الأخيرة ، وقد إجابه المتصرف بأن المدينة الصحراوية الجميلة لم تشهد أى جرائم خلال العشر سنوات الأخيرة ، و قد استشهد بدفتر الحوادث الذى قلب فى صفحاته البيضاء العديدة ، فلم يرد ذكر أى جريمة بشعة ، لا جريمة قتل ولا جريمة سرقة ، مجرد محضر صلح بين عائلتين ، مشروع مساكن شعبية أو استفسارات من الوزارة أو مذكرة بإنشاء ناد للشباب ..وقد أبدي الدكتور مصطفى دهشة كبيرة ، وتوقع أن يكون جهاز البوليس المنوط بالقيام بأمن المدينة والمواطنين يمتاز بالكفاءة العالية ، وتزداد دهشة الدكتور مصطفى اكثر عندما يعلم أن استقرار الاوضاع بفضل احترام الناس لذكري ولي صالح معروف بنواحيهم اسمه السيد البدري.

ثم ينتقل الدكتور لاستعراض الحكايات المرتبطة بسبب تسمية الواحة بغدامس إذ يذكر حكاية القافلة التى نسيت قصعة طعامها فعادوا للبحث فى مكان اقامتهم باليوم السابق لتتفجر عين فأطلقوا عليها المسافرين عين غدامس أى حيث الغدا بالأمس .

وفى حكاية أخري يستعرضها الدكتور مصطفى محمود حول التسمية فيذكر أن العين تفجرت تحت أقدام فرسة عقبة بن نافع وهى عطشى ومن هنا سميت العين الرئيسية بالواحة باسم "عين الفرس" التى قامت عليها المدينة الصحراوية ، وأن كانت هناك شكوك حول هذه التسمية لكون الهين ترتبط بمولد الواحة ولم تأتي متأخرة مع دخول الإسلام للمنطقة .

ويشير الدكتور الى وجود شواهد آثرية موغلة فى القدم يمكن أن يتعرف من خلاله بوجود للواحة منذ عصر ماقبل التاريخ فهناك آثار لعصور حجرية تمثلت فى سكاكين وخناجر من الصوان ، وتمثال ينتمي لنحت ماقبل التاريخ .

وتحت الظلام حالك فى عز النهار يحكي عن ليلته الأولى فى فندق غدامس حيث نام فى نفس غرفة المارشال بالبو فى فترة الاستعمار الإيطالى لليبيا ، كما استعملت نفس الغرفة الممثلة الإيطالية صوفيا لورين عندما أتت للواحة فى سنوات الخمسينات لتصوير فيلمها"الخيمة السوداء" .
 
ويوصل الدكتور مصطفى سرد رحلته وزياراته للواحة وماحولها إذ يزور جبل قصر الغول المرتبط بوجود بئر دارت حولها معركة عنيفة بين جيش عقبة بن نافع و القوات البيزنطية قبل أن يندحروا ويهُزموا.والواحة محاطة بسور منخفض يبلغ محيطه 3 أميال وفيه عدة أبواب يقف عليها الحرس حاملين السلاح ، واشتهرت غدامس بطول التاريخ أنها أكبر محطة قوافل وكان يمر منها فى العام أكثر من ثلاثين ألف من الإبل ، وقد عرف الكثير من التجار الثراء عن طريق تلك القوافل إذ يكتب احدهم :" قطعت ذلك الطريق سبع مرات كنت فى أولها خادما وفى اخر مرة كان عندي سبعة من الخدم".وكانت أهم السلع والبضائع تتمثل فى تجارة العاج و ريش النعام و تراب الذهب والشاي و العطور التونسية والثياب المطرزة و مناديل الحرير وغير ذلك .

يقول الدكتور مصطفى عن غدامس بأنه أعجب مافيها مبانيها فالبيوت متلاصقة ذوات نتوءات مثلثة لطرد الشياطين والأرواح الشريرة ، والأبواب المنقوشة بالطلاسم و التعاويذ و خاتم سليمان المطبوع على رقاع من الجلد ومعلق فى المداخل .وجميع البيوت لصق بعضها ولها سطح واحد ، والنساء يعشن على الأسطح ولايبرحنها ، وللنساء فى غداس سوق وحياة مفصولة تماما عن الرجال ، حيث للنساء الأسطح وللرجال الدروب والأزقة والساحات .

ويتناول الدكتور مصطفى سكانها من الطوارق والبربر والعرب مستعرضة حياتهم وعاداتهم وتقاليدهم ومكانة المرأة عند كل مكونة من مكونات السكان ، ففى الفصل المعنون ب"الرجل ملثم والمرأه سافرة" يتناول عادة عدم كشف الرجل الغدامسي لفمه وكأنه عورة بينما يبقى للمرأة حرية أن تكشف وجهها ، بل وتشارك فى المهرجانات المقامة بالواحة من خلال العزف على آلة وترية اسمها أمزاد ،وإجادة العزف على هذه الآلة علامة على حسن تربية البنت ونبل عنصرها ، و من ينالن شهرة بين قبيلتهن يقطع لهن الرجال أميالا ً من الصحارء ليستمعوا أليهن  كما تغني و تقرع على الطبول ، و تعدد الزوجات بين الغدامسة موجود ولكن بنسبة قليلة . 

أما الحروب المنظمة بين القبائل فأكثر ندرة من حوادث قطع الطريق وهى تحدث لأسباب سياسية كالتنازع على السلطة أو خلاف حول المراعي ، ويختارون فصل الشتاء موسما لحروبهم حيث تكون كل قبيلة قد جهزت نفسها بخزين من التموين و المواد الغذائية ، ومن تقاليد الحرب ألا يعتدي على النساء الأسرى ، و كثيرا ماحدثت سلسلة من الحروب الانتقامية بسبب مثل هذه الحوادث .

اما فى خاتمة الكتاب فهو يروي لنا لقائه برجل صالح منقطع للعباده يسأل الدكتورالرجل بعض  الكلمات التي تعينه على الطريق فقال : "...أكثر من صحبة الصالحين فإن فيهم الشفعاء..لباسهم ماستر وطعامهم ماحضر ..أبرار أخفياء، أتقياء إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا حضروا لم يعرفوا ..تحابوا فى روح الله على غير أموال ولا أنساب ..يتعارفون فى الله ويحبون فى الله ويكرهون فى الله ..يقول الله عنهم يوم القيامة :أين المتحابون بجلالي ..اليوم أظلهم فى ظلي يوم لاظل إلا ظلي .." .

***
الكتاب صغير الحجم ، لاتتجاوز عدد صفحاته ال110 ، مكتوبة بلغة مكثفة ومركزة حول بعض الجوانب ، لاتخلة لغته من مسحة صوفية تأملية تحركها الصحراء بغموضها وحكاياتها وبتواريخها الاسطورية .
لم يوفق المؤلف فى تناول تاريخ الواحة الساحرة بطريقة سلسة تساعد القارىء فى الحصول على معلومات موثوقة و كافية حول تاريخها وسكانها ومايتعلق بهم ، إذ اكتفى بنقل فقرات غير مترابطة ومتعارضة مع بعضها البعض ، واعتمد فى بعضها على مشاهدات الرحالة الأجانب ممن يحملون نظرة غير محايدة أو دقيقة حول سكان الصحراء فى الفترة التى سبقت الاستعمار الغربى ، أيضا لم يتوسع فى تناول انطباعاته وزياراته لبعض المواقع واكتفى بذكر القليل ، بالمجمل هو كتاب مسلى ، ومناسب الاطلاع عليه لتعرف آراء الزوار من العرب والأجانب حول المدينة الصحراوية غدامس  ، جاء اختيارى له كنوع من التغيير فى نوعية المواضيع ، بالاضافة لميلى القوى تجاه كتب الرحلات .

الثلاثاء، 19 يناير 2016

عيناها:حكاية حب إيرانية فى زمن الدكتاتورية ..



رواية "عيناها" للكاتب بزرك علوي (1904- 1997) هى أحد اهم الاعمال الروائية الإيرانية  التى ترصد إيران ماقبل الثورة الإسلامية ، وقد اشتهرت كرواية سياسية أكثر من اعتبارها رواية عاطفية لتضمنها قصة حب شديدة الرومانسية.

صدرت لأول مرة عام 1952 ، و كما صدرت ترجمة عربية ثانية لها فى العام 2014 ضمن سلسلة إبداعات عالمية الكويتية، حيث قام بالترجمة الدكتور أحمد موسي، والمراجعة وكتابة تقديم للرواية الدكتورة زبيدة اشكناني المتخصصة فى الأدب الفارسي.

تبدأ رواية "عيناها" للكاتب الإيراني بزرك علوي  بتقديم الجو العام المهيمن على طهران وايرن كلها في سنوات الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي ، حيث القبضة القوية للديكتاتور رضا شاه بهلوي ، مع انتشار الأمية والتخلف والفقر والفساد والقمع ، واجراءات التحديث بالقوة من قبل نظام الشاه ، وترسخ النفوذ الغربي فى البلد ، كل ذلك مع بروز طبقة من المتعلمين والمثقفين المتأثرين بالثقافات الغربية وسعيهم من أجل ادخال الحداثة فى إيران ، وانتشال الشعب من تغلغل الخرافة و الجهل والتخلف فى عقول الإيرانيين من عامة الشعب .

تنساب أحداث الرواية من خلال ثلاث شخصيات رئيسية: ناظر المتحف الفني، والسيدة  فرنكيس، والرسام ماكان، الذي يجسد بلوحاته أهم ماكان يمر به البلد أثناء حكم الشاه .

من خبر وفاة الرسام "ماكان" فى العام 1938 م ، وتزايد النقاش والاهتمام حول أبرز لوحات  الرسام "ماكان" وهى اللوحة التى تحمل عنوان "عيناها" يتحرك ناظر المتحف الفني باحثا ًعن تفاصيل غير معروفة وجوانب مجهولة من حياة الرسام "ماكان" فيبدأ البحث عن المرأة الملهمة التي رسمها الفنان ، حيث يقوده البحث الى تخمين وجود امرأة تحمل اسم "فرنكيس" تزور المتحف فى الذكرى السنوية لوفاة الرسام "ماكان" .

و فى الذكرى الخامسة عشر لرحيل الفنان ينجح فى لقاء السيدة ويقنعها أن تروي له سر اللوحة ، وماخفي من حياة الفنان "ماكان " ، وتحديدا عن الظروف التي أوصلته للحكم عليه بالنفي فى احدى القري الإيرانية النائية حيث قضى ماتبقى من سنوات حياته التي قام فيها برسم لوحته الشهيرة عيناها قبل أن يتوفي.

من هذا اللقاء ينطلق السرد على على لسان "فرنكيس" التى ستروي ذكرياتها مع الفنان التشكيلي "ماكان" و هو صاحب شهرة كبيرة داخل إيران وخارجها ، المناضل المهموم بالكادحين ، المشغول بالقضايا السياسية والاجتماعية للوطن ، أما "فرنكيس" فهى الفتاة الجميلة المنتمية لأسرة اقطاعية غنية ، وحيدة والديها ، مدللة ، وصاحبة نزوات ورغبات متقلبة ، يقودها نزوة الولع بالرسم إلى مرسم الاستاذ "ماكان" لتعلم الرسم على يديه ، ولكن تصدمها لامبالاته وعدم وقوعه تحت تأثير جمالها ، ومن خلال تلك الزيارة تكتشف أنها لاتملك أية موهبة ، رغم ذلك تقرر السفر إلى فرنسا للدراسة والتعلم فى أرقى أكاديمية للفن فى أوربا ، لتضعها الظروف فى طريق الطالب الإيراني اليساري"خداداد" الذي يقودها باتجاه العودة ولقاء استاذه"ماكان"  حيث تنخرط بالعمل السياسي السري رغبة فى التقرب من الفنان الكبير، وكي تكسب حبه واحترامه .

ينتهي الحال بالفنان للوقوع فى قبضة شرطة "رضا شاه" أثناء تعقبها للمعارضين السياسيين ، لتقدم "فرنكيس" على تضحية كبيرة لتخفيف عقوبة الاستاذ "ماكان" من السجن المؤبد للنفي لمنطقة نائية ، بزواجها من رئيس جهاز الامن الإيراني ، الذى تتركه بعد سقوط حكم الشاه رضا بهلوي ، لتعود إلى ايران بعد وفاة ماكان الرجل الوحيد الذى احبته فى حياتها.                                              
واحدة من اعمال الفنان الإيراني محمد غفاري (1849 – 1940)المعروف بإسم كمال الملك
يري المختصون فى الأدب الإيراني أن ابطال رواية "عيناها" لهم وجود بالواقع ، إذ يرجح كثيرون أن "ماكان" هو الفنان الإيراني محمد غفاري (1849 – 1940)الذي اشتهر بإسم كمال الملك وهو أحد كبار الفنانين الإيرانيين، ومن رواد النهضة الفنية والفكرية فى البلد ، أما آرام فيُعتقد أنه أيرو رئيس الشرطة في عهد رضا شاه . 

ومن خلال هذه الرواية يكشف بزرك علوي المثقف والكاتب اليساري عن آراءه السياسية ، ورؤيته للفن ، دون أن يُثقل على القارىء بتلك الآراء الاشتراكية ، إذ يرسم لنا صورة عن المجتمع والدولة فى ايران ماقبل الثورة الاسلامية ،و يعُرف القارىء العربي علي الصراعات بين اليسار واليمين فى إيران ، عن مظاهر الفقر والأمية والتعلق الشديد بالخرافات ، كما نتعرف على التناقضات فى حياة الأسر المحسوبة على الطبقة العليا بالمجتمع الإيراني ، وصراع العادات والتقاليد الموروثة منذ أجيال وبين الأفكار الحديثة التى بدأت تغزو المجتمع الإيراني بعد زوال حكم الاسرة القاجارية التى أبقت إيران فى العصور الوسطي لزمن طويل ، عن التحديث بالقوة الذي انتهجه الشاه رضا بلهوي بالأخص فى قضية نزع حجاب النساء الإيرانيات بقوة والتى تصبح واحدة من الاسباب التى تقود للتطرف فى اجبار الإيرانيات على ارتداء الحجاب بعد انتصار الثورة الإيرانية .
 
كما يتطرق علوي لقضية الاقطاع فى المجتمع الإيرانى والتدخلات الأجنبية  فى الشؤون الداخلية للبلد، وتجذر الفساد والمحسوبية فى نظام الشاه رضا الذى لايتوانى هو شخصيا عن التلاعب بملكيات الفلاحين والاغنياء من سكان القري للاستيلاء على أراضيهم واملاكهم .

يري الكثير من المختصين فى الأدب الإيراني الحديث أن أهم عناصر رواية "عيناها"  هو انها محاكاة محاكاة مشاعر المرأة العاشقة ، صاحبة النزوات ، و الشخصية النرجسية بقلم رجل بطريقة مدهشة . 

                                            * * *
بزرك علوي ولد فى العام 1903 م بأسرة دينية لها نشاط سياسي بارز ، إذ ناصر كلا من والده ووالدته الحركة الدستورية فى إيران مطلع القرن العشرين أواخر أيام حكم الأسرة القاجارية ، ولكن دراسته بأوربا فى سنوات الثلاثينات ساعدته على الاطلاع بشكل عميق علي الفكر الأوربى الحديث ، والتعرف على الكتابات والأفكار الاشتراكية ،وقد دخل السجن فى إيران لمدة خمس سنوات ، باعتباره أحد مؤسسى الحزب الشيوعي الإيراني"توده" فى سنوات الأربعينات ، وقد نفي إلى الخارج فى زمن رضا بلهوي حيث توفي فى برلين فى العام 1997.

و تذكر د. زبيدة أشكناني فى مقدمة الرواية أن بزرك علوي يعد اليوم أحد الأصوات الأدبية المهمة فى إيران ، حيث شكل مع كل من مسعود فرزاد ومجتبى مينوي ما أُطلق عليه (عصبة الأربعة) ، في مواجهة التيار الأدبي الكلاسيكي المحافظ (عصبة السبعة)، ومن ضمن أعضائه سعيد نفيسي وعباس رشيد ياسمي .