الخميس، 14 نوفمبر 2013

عاشوراء .. يوم للشكر والفرح فى ليبيا

هناك عادات وتقاليد ليبية ذات طابع دينى وجد فيها الليبيين فى العقود الماضية قبل التحول الى الحياة الحديث نوع من الترفيه البرىء ويتقربون فيها إلى الله فى الوقت نفسه ، منها الاحتفال ب(يوم عاشوراء ) اى اليوم العاشر من شهر محرم من كل عام ، حيث يصوم الكبار ايام تسعة وعشرة من هذا الشهر فى مخالفة لعادة اليهود والمسيحيين ، حيث يأخذون بما ورد أحاديث كثيرة في فضل يوم عاشوراء، منها: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ماهذا؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، قال: فأنا أحق بموسى منكم. فصامه وأمر بصيامه" (رواه البخاري 1865 ) .

وكان الاطفال يخرجون فى مجموعات مع حلول ليلة التاسع من شهر محرم ، يطوفون على البيوت ويطرقون الأبواب ويرددون عبارات مسجوعة يستدرون بها الهدايا والنقود من ربات البيوت . 

اتخذ الناس فى ليبيا فى العقود الماضية من يوم عاشوراء من كل عام موعد لاداء الزكاة ، ربما لانها تتوافق مع بداية العام الهجرى الجديد حيث يقوم الزراع والرعاة والتجار بمراجعة حساباتهم و التدقيق فى حصاد عامهم من الخسائر والارباح وفقا للتقويم الهجرى ، وفى مدينة درنة يطُلق على يوم عاشوراء ومايؤدى فيه من طقوس (تعوشير) وربما جاءت الكلمة كما يفسرها الباحث التاريخى مصطفى الطرابلسى رحمه الله بأنها تدل على أخذ العشر أو نصف العشر بالنسبة لزكاة الحبوب ، أو أخذ ربع العشر ، بالنسبة لزكاة النقدين وعروض التجارة . 

كانت الاسر الليبية تحتفل بيومى التاسع والعاشر من محرم بالصيام ، ثم تناول وجبة طعام برفقة افراد العائلة ، كما يقمن ربات البيوت فى مدينة بنغازى بإعداد طبق من البقوليات المسلوقة (حمص وفول ) أما فى بيتنا فقد اعتدنا على تناول طبق السليقة وهى قمح وفول وحمص مسلوق يضاف إليه القديد وبعض البهارات كالملح والفلفل الاحمر والكمون الاسود ، بحسب عادة اهل درنة مسقط رأس والدتى ، في حين يقمن ربات البيوت الليبيات المنحدرات من نسل الاتراك و الكريتلية (اليونانيين) بإعداد طبق البليلة وهى لاتختلف عن السليقة الا فى مذاقها الحلو حيث يستبدل الملح والبهارات بالسكر واللوز والزبيب ويضاف الى الحمص والقمح المسلوق ويزين بجوز الهند ، ويتم تبادل تلك الاطباق بين الجيران والاقارب والمعارف فى الحى والمدينة الواحدة ، فتصبح فرصة للاولاد والبنات للحصول على الحلوى والنقود مقابل قيامهم باحضار تلك الاطباق فلم يكن من العادة اعادة أى صحن فارغ .

و يوم عاشوراء عادة لاتعمل ربات البيوت في أى اعمال منزلية مرهقة باستثناء إعداد وجبات الطعام واستقبال افراد العائلة والجيران لتبادل التهنئة حيث يصبح هذا بمثابة يوم عطلة لهن ،  فتكتحل النساء والشابات والفتيات الصغيرات بالكحل العربي ويخضبون أيديهن بالحناء ويقصصن جزء من شعرهن ، لاعتقادهن بأنهن سينلن حظ طيب بالحصول على زوج فى العام الجديد ، ولحرصهن على الظفر بشعر طويل ففى العقود الماضية قبل طغيان الحياة الحديثة  على المجتمع الليبى كان هناك حرص كبير للحصول على شعر طويل كعلامة جمال مميزة للشابات ، كما يحرص الجميع فى تلك السنوات القديمة على الاستحمام فور الاستيقاظ اعتقادا ً منهم بأن الماء مزمزم أى قادم من بئر زمزم . 




كما يهرعون صباح يوم عاشوراء الرجال والنساء برفقة أطفالهم للقيام بزيارات للمقابر التى احتوت رفات أحبائهم وأقربائهم محملين بالزهور والورود وأعراف الياسمين وأوراق شجر الموز الخضراء وسعف النخيل وأوآنى المياه وهناك يتحلقون حول قبورأحبائهم يتحادثون ويتسامرون مستعرضين سيرهم وتواريخهم يسردونها فى شوق وعبره لأبنائهم وأحفادهم المرافقين لهم ، وفى نهاية لقائهم بأحبائهم سكان  القبور يودعونهم  بكلمات مفعمة بالتدين والإيمان ( أنتم السابقون ونحن اللاحقون ) ويقرأ الجميع كل حسب مقدرته وثقافته آيات من القران الكريم ( أو يستأجرون أحد الشيوخ لكى يقرأ تلك الآيات من الذكر الحكيم)  ترحما وصدقه على أرواح أحبائهم وأقاربهم من ساكنى القبور ، ثم يضللون هذه القبور بعد ان ينظفونها من بقايا الأعشاب اليابسه والشوائب،  بالأغصان الخضراء وينثرون عليها الورود التى أحضروها معهم  ، كما يبللون ترابها وأعشابها برشات من قوارير المياه ويتركون بعد ذلك ما تبقى منها فى أوآنى على قمة تلك القبور رحمة لزوارها من الطيور والحشرات، كما يتصدقون بعد انتهاء الزياره بما توفر لهم من مال أو غذاء على الفقراء والأغراب المتواجدين عند مخارج المقبره .

تذكر والدتى بأن خالتى الكبيرة ياسمينة كانت تحرص فى كل عام من يوم عاشوراء على زيارة الجبانة الغربية بدرنة حيث ترقد والدتها واخيها فرحات الذى قُتل على يد الايطاليين فى أثناء الحرب العالمية الثانية ، مصطحبة ابنائها وزوجها وخالاتى الصغيرات حاملين اغصان النخيل و الياسمين لوضعه على قبور الاحباء الراحلين .




وكان الاولاد والبنات يرددون اغانى واهازيج خاصة بيوم عاشوراء اختلفت من مدينة لأخرى، ففى بنغازى ومدن برقة بشكل عام و،كان جمل عاشورة أهم مايلفت النظر فى الاحتفالات بعاشوراء فكان كل حى يعد الجمل الذى هو عبارة عن قفص خشبى مذبذب الرأس يغطى بالقماش وتربط به خشبة طويلة مغطية بالقماش أيضا تمثل رقبة الجمل وترشق على رأسها جمجمة جمل ، وكان أحد الشبان يدخل وسط القفص فيحمله ويبدو كما لو أنه جمل وتطوف الجمال بالشوارع ومن ورائها الصغر يهتفون جمل عاشوره أى والله ويرجح الدكتور وهبى البورى أن هذه العادة موروثة من العهد الفاطمى فى ليبيا، وكان الاطفال يسيرون وراء الجمل فى موكب ، حاملين صحونا ً مملوءة بالفول والحمص ، ويمرون على البيوت مرددين:يالله جمل عاشورة/ يالله يلعب بالكورة /يالله فى يوم عاشورة /الله يلعب بالمية / الله فى جنان حليمة ).

وما إن يقترب الأطفال من أحد المنازل حتى يطلبون العاشورة المكونة من الفول والحمص وهم يرددون:

عاشورة عاشورتى      تنفخ لى كورتى
تنفخها وتزيدها          سموا من هو سيدها
سيدها عبدالرحمن     كارس فى ذيل الدكان
        يأكل فى خوخ ورمان

ثم يتوقفون فى انتظار ماسيجود به أهل البيت من فول وحمص وهم يرفعون أصواتهم منشدين:

اللى ماتعطينى الفول     يصبح راجلها مهبول
اللى ماتعطينى الحمص    يصبح راجلها يتلمس

وعندما تعطيهم ربة البيت الفول والحمص وتجود عليهم من خير البيت، فإنهم يمدحونها ويمدحون كرمها قائلين:

هذا حوش البوبشير      فيه القمح والشعير
هذا حوش عمنا           يعطينا ويلمنا
هذا حوش سيدنا      يعطينا ويزيدنا

فإن لم تعطيهم ربة البيت شيئا ً ، وهذا نادر مايحدث إلا نفذ ماعندها من حمص وفول، فإنهم يقفون أمام الباب ويذمونها مرددين:

هذا حوش الوزنان    فيه القمل والسيبان
الرحى معلقة      والمراة مطلقة

وفى هذا البيت إشارة خفية إلى أن البيت الذى يخلو من امرأة كريمة صالحة هو شبيه بالبيت الذى فيه امرأة كسولة ، ولا توجد به أخت كبيرة تعتنى بالصغار، لذلك فكل الأطفال غير نظاف ، ويمتلىء شعرهم بالقمل وبيوضه ولا يطبخ فيه الطعام او يطحن فيه الدقيق ، والزوجة فيه ستتعرض حتما ً للطلاق لكسلها وعدم نظافتها أو عنايتها بالأطفال، وهى إشارة إلى ضرورة الاهتمام بالأسرة والبيت، ودعوة خفية لأداء الواجب.

وفى مدين درنة يحمل الأطفال صحون الفول والحمص ، ويدورون فى الشوراع وهم ينشدون(وارشة نملة ونميلة/وارشة جاك الغرنوق/وراشة ينقبلك عينك/وارشة عينك لافوق/وراشة عدا للسوق/وراشة شراء عبروق / وارشة من وسط السوق/وارشة عبروق فضية/وارشة بألفين ومية).

والغرنوق هو الطائر البحرى المعروف (ونقبك) اى نقرك بمنقاره ، ويرى الباحث التاريخى مصطفى الطرابلسى رحمه الله فى هذه الاهزوجة كنوع من التعبير الشعبى عما كان يصيب الناس من عسف الجباة فى العهود الماضية ، فالمعروف أن جباة الضرائب فى عهد العثمانى لم يدخروا وسيلة او فرصة لاجل استنزاف موارد الناس ، فكانوا يجمعون منهم النقود والأقوات وقد يصادرون منهم مايدخرونه من قوت أو نقود ولايستثنون الفقراء .

كما يردد الاطفال فى مدينة درنة عبارة مسجوعة (اللى ماتعطى العشورا ، تصبح برمتها مقعورا ) وهى تقليد ومحاكاة لما كان يجرى أمام اعين الاطفال من مساومات وتهديدات يطلقها جباة الاموال من موظفى الدولة آنذاك .

 أما فى مدينة طرابلس فإن الأطفال فى دورانهم على البيوت فيتولى قيادتهم  (الشيشبانى) وو احد شباب الحى يكون طويل القامة يتبرع للقيام بهذه المهمة مرتديا ملابس من الخيش ويلبس معها سلاسل واالقواقع البحرية وبعض التمور الخضراء والعقود المعدنية وقد يضع عمامة وقناعا من الألياف نفسها ، ويعلق العلب الفارغه في جسمه حتى تحدث صوتا يقرقع ويمسك في  يده عصا يرقص بها والأطفال يغنون له أغنية  الشيشباني : (شيشبانى يابانى/ هذا حال الشيشبانى/ هذا حاله وأحواله/ربى يقوى مزاله/ شيشبانى فوق جمل/ سقد يامولى المحل/شيشبانى فوق حصان/ سقد يامولى الدكان/شيشبانى فوق تناكة/سقد يامولى البراكة/عمى الحاج هات امية/ بيش انعنقر الطاقية/قيزة قيزة حق القاز/عسكرى والا منطاز)..

 
ويبدأ تهديد صاحبات البيوت (اللي ماتعطيش الفول/ يقعد راجلها مهبول )، اى من لاتعطينا الفول يصبح زوجها مهبولً اي مجنون ، محذرين صاحبة البيت إذا لم تعطي الفول فإن زوجها سيجن ويصير بهلول.
وعندما تهرع صاحبة البيت لجلب نصيبهم من الفول والحمص وتكون كريمة يغنون لها: (أمشت أتجيب / أعطيها الصحة )، وإذا تأخرت يغنون ساخرين (أمشت تجيب/ أكلاها الذيب ) ، اي ذهبت لتحضر الفول تاخرت اكلها الذئب ، وبعد أن تمتلئ السلال بالفول والحمص يكون الأطفال قد تعبوا من الدوران على البيوت فيغنون للشيشبانى ليرجعهم لبيوتهم قائلا ً: ( روح بينا / شيشباني ليل علينا) فيستلقى الشيشباني ويتظاهربالموت ويقول: (افويله افويله/ وإلا نموت الليلة ) فيقول له الأطفال (صلي صلاتك / الموت جاتك ) ثم يودعون الليلة بأغنية ( العادة دايمة وتدوم العادة /  ديرلها سلوم).
 
استوقفت شخصية الشيشبانى الكثير من الباحثين فى التراث الليبي كثيرا فحاولوا تفسير وجود هذه الشخصية الغريبة ضمن الموروث الشعبى الليبى ، باعتبارها جزء من تأثيرات افريقية اتت مع جماعات العبيد الذين عملوا فى بيوت ومزارع الطرابلسيين.
 
قد كانت شخصية الشيشباني - ولا تزال - شكلا من أشكال التسلية الشعبية الموسمية داخل المجتمع الليبي. حيث تصبح عاشوراء فرصة لنشر روح المرح والفرح بين سكان المدينة ، وزيادة تقوية روابط المحبة والخير بين أفراد المجتمع الليبى.

هذا المساء انتظرت أن يمر اطفال الحى مرددين اهازيجهم واغانيهم مطالبين بنصيبهم فى العاشورا ، لكن الانتظار طال ولم يطرق الباب أى ولد او بنت من اولاد الجيران ، باستثناء حفيد احد اقدم جيراننا جالبا فى يده طبق فول وحمص ، كنت انتظر أن اسمعه يردد عاشورا عاشورتى ، مع الاسف اكتشف مع مرور الاعوام اختفاء واندثار الكثير من العادات والتقاليد الجميلة ، وكم يحزننى الامر فهى عادات وتقاليد تحض وتحرص على اعلاء القيم السامية فى مجتمعنا.

اللوحات للفنان الليبى عوض عبيدة رحمه الله

الأربعاء، 6 نوفمبر 2013

رحلة الريح الجنوبية ..



منذ ساعات الصباح الباكر تهب على بنغازى رياح القبلى الحارة فتلفح الوجوه ويسود الوجوم والضيق الاجواء العامة فى المدينة ، فرياح القبلى لها تأثيرها على المزاج العام لسكان بنغازى وإحساسهم بعدم الإرتياح وزيادة إرهاقهم ، فى اوقات هبوبها بالاخص فى موسم الربيع حيث يكون لشهر ابريل نصيب الأسد فى عدد العواصف الرملية التى تترك تأثيرات صحية كالأزما و امراض العيون وغيرها ، فى مثل هذا الطقس الصعب يخيم السكون على المدينة ، فالزوابع وعصفات الرمال فى الهبوب والتدفق والانتشار فى ارجاء المدينة تدفع السكان للشعور بالوحدة والعزلة التى لايسهل التعبير عنها .

منذ ساعات الصباح كنت انصت الى صوت الريح وهى تصفر فى أرجاء المدينة الساكنة ، لتختلط اصوات الريح العاصفة بضجيج بعض المصلين والسيارات المارة من شارعنا  فى ساعات الظهيرة ليعود الهدوء ليعم الارجاء من جديد ، ثم يحدث انقلاب مفاجىء فى الطقس الى رياح باردة تبشر بجلب امطار خريفية طال انتظارها .

ولم نكد نقترب من منتصف الليل حتى انهمر المطر بغزارة ليغسل شوراع المدينة المتربة والمنهكة ، وليضفى بعض البهجة على ارواحنا الظمآنة ، فترف الريح الطيبة لتصبح نفسا ً عذبا ً ، ولتعبر ظلال افكارى وتأملاتى عبر حوائط وشوراع المدينة  ، كنت استرجع ماسبق قرأته حول ريح القبلى فى المؤلفات والكتب التاريخية،  إذيقدم لنا المؤرخ الاغريقى الشهير هيرودوت رواية حول الاسباب التى ساهمت فى انقراض البسيلى وهى قبيلة ليبية فى العصر الاغريقى وحلول قبيلة ليبية اخرى محلها هى الناسامونيس فى كتابه الرابع المسمى بالكتاب الليبى ، فى الفقرة (173) يكون البسيلى (البسولوى) جيرانا للنسامونيس ، وقد انقرض هؤلاء بالشكل التالى : بعد أن هبت رياح جنوبية جفت صهاريج المياه ، وهكذا أصبحت كل أرضهم الكائنة داخل اقليم سرت بدون ماء . وبعد أن تشاوروا قرروا جميعا الزحف ضد رياح الجنوب (أقول الأشياء نفسها التى يقولها الليبيون) وبعد أن صاروا وسط الرمال هبت رياح الجنوب وردمتهم . وبعد أن أبيد هؤلاء استولى النسامونيس على أرضهم.


إذ اعتُبرت الرياج الجنوبية أى القبلى من ألد اعداء قبيلة البسيلى فقرروا شن هجوم عليها فى عقر دارها فى الصحراء الليبية الشاسعة والجافة ، ربما يبدو تفسير هيرودوت مضحكا ً لنا فى الزمن الحديث ولكنها طريقة المؤرخين فى تفسير وتقديم معلومات حول وقائع تاريخية او احداث تخص بعض الشعوب والقبائل فى تلك الازمنة القديمة لفترة ماقبل الميلاد .

ويمكن للباحثين فى التاريخ القديم فهم الفقرة اعلاه حول انقراض هذه القبيلة الليبية بأنها تعكس مقدار ماكانت تتسبب به تلك الرياح الحارة فى الازمنة القديمة خاصة فى المنطقة الساحلية الوسطى من ليبيا .

وتحدثنا الكتابات والروايات التاريخية القديمة حول دور رياح القبلى فى قهر جيش عظيم هو جيش الملك الفارسى قمبيز ففي عام 525 قبل الميلاد توجه قميز لاحتلال واحة سيوه  ومنها ينوي الأتجاه غربا كان جيش الملك الفارسى  قمبيز متكون من خمسون ألف جندي وردمته رياح القبلي بالصحراء ولم ينجى منه احد بما فيها من حمولة إلف بعير من الأموال و المجوهرات التي كان قد غنمها من الشرق ومصر ويرجح الكثير من الباحثين والاثريين ممن خاضوا فى هذه الحادثة التاريخية أن  بقايا جيشه مردومة حتى هذه اللحظة تحت رمال الصحراء الليبية التي نقلتها رياح القبلي .
 ولم تكن هذه الحادثة هى الوحيدة فى التاريخ الليبى عبر العصور ، ففى العام 1992 كادت رياح القبلى التى تهب فوق الصحراء الليبية ان تؤدى بحياة المناضل الفسلطينى ياسر عرفات عندما وقعت طائرته وتحطمت فى الصحراء الليبية عند اقصى جنوب شرق ليبيا ، والذي ذهب ضحيته 3 من أفراد الطاقم الجوي حيت كانت العاصفة الرملية في ذلك اليوم هي السبب المباشر لهذا الحادث وكذلك السبب في التأخير في عمليات البحت والإنقاد التي جرت على الطائرة المنكوبة وركابها، حيت لم يتمكن الطيارين من الهبوط في مطار الكفرة نتيجة لوجود عاصفة رملية قوية مصحوبة برياح شديدة وزوابع رملية لم تمكنهم من رؤية المدرج ففضلوا التوجه إلى مطار السارة ولكن لسؤ الحظ سبقتهم العاصفة إليه مما أضطرهم للهبوط الإضطراري وكانت النتيجة مميته ومؤلمة.
كما عرفت بنغازى الالفية الجديدة ايام طويلة وصعبة من حصار رياح القبلى لسكانها فى اعوام 2006 2007 و 2009 ، ويتندر الليبيين بارتباط احد تلك العواصف الرملية بزفاف عائشة ابنة الدكتاتور القذافى فأسموه عجاج عويشة نكاية فى مظاهر الاحتفالات الباذخة بالزفاف التى كُشف عنها فى وقت لاحق عبر تسريبات الصور والفيديوات قبيل اندلاع ثورة فبراير لتزيد من تأجيج الانفس ضد النظام المنهار .

كان الليبيون فى العقود الاخيرة يفسرون هبوب هذه الرياح بأنها غضب من الله على صمتهم على ماكان يرتكبه النظام السابق من جرائم علنيا ، ففى اول حوادث الاعتداء على حرمات الشعب الليبى قيام القذافى بنبش قبر الامام محمد ابن علي السنوسي المتوفى سنة 1860 والمدفون  فى زاويته ببلدة الجغبوب  حيث جرد حملة عسكرية الى بلدة الجغبوب سنة 1984  ليقوموا مجموعة الانقلابيين بقيادة المدعو حسن اشكال ابن عم القذافى بالاشراف على نبش القبر ونسف الضريح ، كما نبشت قبور السادة والإخوان وزوجات السيد محمد بن علي السنوسي الموجودة في المقبرة الملحقة بالجامع ، ثم يقوم أشكال بهدم زاوية الجغبوب ويستخرج الرفات ويلقى به فى مكان مجهول بفيافى الصحراء ، حينها تهب على مدن شمال ليبيا رياح صحراوية عاتية تستمر لايام تجعل من الرؤية صعبة ، فيتحول احساس الناس بالذنب أمام صمتهم على تلك الجريمة البشعة بحق رفات اموات رحلوا قبل قرن من الزمان مدفونين فى عمق الصحراء الليبية  ، وليستعيد الناس مع تلك الحادثة البشعة ذكرى رياح قبلى مرتبطة بأسم الاسرة السنوسية ، ففى العام 1953 هبت رياح قبلى عاتية صرت تعرف بين الناس بتسمية عجاج سيدى المهدى ويقدم لنا الباحث شكرى السنكى رواية حول تلك الحادثة الملتصقة بالمخيلة الشعبية الليبية فيقول : 

 (عاد السيد أحمد الشريف بالعائلات إلى الكفرة، وقام السيد أحمد الريفي بنقل جثمان السيد المهدي إلى الكفرة بعد عامين من وفاته ، وبعد نصف قرن من وفاته أى فى سنة 1953 قررت حكومة المملكة الليبية نقل جثمان السيد المهدى من الكفرة إلى الجغبوب ، وتصادف ذلك مع هبوب رياح قبلية كثيفة الرمال ، ما اشتهر باسم "عجاج سيدى المهدى" ، واعتبره الناس علامة على عدم رضاه وبالفعل فقد ألغت الدولة مشروع نقل الجثمان ، ممايدل على عمق الاعتقاد فى ولاية السيد محمد المهدى أنذاك ).

 ويسجل دارس المناخ فى ليبيا ارقام حول اكثر المدن التى تهب عليها رياح القبلى الحارة فمحطات الأرصاد الجوية السينوبتيكية في طبرق وهون وسرت هي الأكثر عرضةً للعواصف الرملية بتردد سنوي قدره 15 و 13 و 11 عاصفة على التوالي ، ويصبح العجاج اسم لسوق شعبى شهير فى مدينة طبرق ، كما يتحول الى رمز لمدينة اجدابيا الواقعة بموقع يتوسط خطوط القوافل التجارية البرية التى تربط الشمال الليبى بالجنوب وبعمق القارة الافريقية حيث تلعب تلك المدينة المتربة على مدار العام دور هام وحيوى فى الفترة الاسلامية لتعود وتحتل مركز هام فى فترة الاستعمار الايطالى حيث اصبحت عاصمة للامارة السنوسية الاولى فى عشرينات القرن الماضى .

وتعُرف الرياح الصحراوية الجنوبية بتسمية محلية  القبلى او العجاج بحسب التعبير الشعبى الرائج بين الناس وهى كلمة مشتاقة من عَجَاج اسم علم مذكر عربي ، معناه : الدخان ، الغبار مع الريح . عَجّاج اسم علم مذكر عربي ، من الفعل عجَّ عجاً وعجيجاً : صاحَ رفع صوته . والعجّاج : صيغة مبالغة . 
هذا و حملت  طائرات الاستطلاع الايطالية فى الحرب العالمية الثانية اسم "جيبيلى" نسبة للتسمية المحلية فى ليبيا للرياح الصحراوية الحارة أى رياح القبلى و التى سميت كذلك بسبب هبوبها من جهة القبله ، ثم يقوم فنان الكرتون اليابانى الشهير" هاياو ميازاكي" المغرم بالطائرات وبكل ماهو إيطالى فى العام 1985 باطلاق اسم تلك الطائرات على شركته " استديوجيبيلى" .

وكما قلت فأن الجيل القديم من الليبيين يرون فى تأخر سقوط المطر فى فصل الخريف وهبوب رياح القبلى حتى بعد صلاة الاستسقاء طلبا للمطر يرون ارتباطه بأمور معنوية وغيبية أكثر من تفسيره بحسب التقلبات المناخية فكبار السن يرون ان سقوط المطراو استمرار هبوب الرياح الساخنة المزعجة  حتى بعد الاستسقاء مرتبط بالنوايا الحسنة والاعمال الخيرة وصلاح المجتمع فكان كبار السن من الاجيال السابقة يرددون (مبروك صلاة استسقاكم سود انياكم ربى بالقبلى كافاكم )  

ولايغيب القبلى والعجاج عن القصائد الشعرية فى الادب الشعبى فهناك غناوة علم رائجة للشاعر الشعبى الشهير مراد البرعصى يقول فيها : (قبلي الياس اعصره قبل احسابي فيهم وما نلنا جنا محصول ) . 
كما لايغيب القبلى والعجاج فى الادب الليبى الحديث ففى ادب خليفة الفاخرى نقرأ جزء من احد قصص مجموعته ( موسم الحكايات ) قصة تحمل اسم رحلة الريح الجنوبية التى يضمنها وصف للرياح الحارة   ...( حين تهب رياح ( القبلي ) في بنغازي الضيقة الصدر، تصبح وجوه الناس حالكة كالحة  وحيــن ينهمر المطر يكسوها شعور غامر بالاستياء، لأن الكثيرين لا يفكرون الا في الغدران التي ستملأ الطرقات . ولـكن انسانا ما، في مكان ما، يظل جذلا عبـر انهمار المطر، مفكرا ــ فقـط ــ في موسـم الحصاد .. فيما تقف أنت خلف النافذة، في الغرفة (211) رانيا إلى عروق المطر فوق الزجاج، منصتا بين حيـن و آخر إلى أولى الأصوات المنبعثة في المدينـة عند الفجر . إلى صياح الديكـة . و نباح الكلاب عبر السكون . حالما بأن المطر قد غسل المدينة الآن . و الناس .. و جعلهم طيبين تماما ً .. تنظر . و تسمع . و تحلم . مدركا ــ اثر انحبـاس المطر ــ ان الشمس ستنهض بعد قليل ، وأن عليك أن تنهض أنت أيضا لكى تسعى فى أرض الله ..). 

ولايكتفى الفاخرى بتوثيق حالة الشغف حول بنغازى بعد أن يضربها العجاج ثم يغسلها المطر ، ليساهم فى في صدور أول مجموعة قصصية للكاتب الليبى عقيلة العمامى الذى كان ينشر بين حين وآخر  قصة هنا ، وأخرى هناك إلى أن فاجأه ذات يوم بمجموعة ( الحوات والقبلي) التي  كان قد جمعها ، وراجعها وأشرف على طباعتها إلى أن جاءه الفاخرى مطبوعة جاهزة سنة 2000 كلمسة تشجيع وتقدير للعمامى . 
ولعل الروائى الليبى الاول فى اعتبار القبلى بطل من ابطال اعماله الروائية السردية هو ابراهيم الكونى فنجد ريح القبلى قد تشتبك  فى معركة ضد بطل رواية ما للكونى او تؤدى به الى الهلاك والموت عبر طمر البئر وسط صحراء قاحلة و شمس  محرقة ودروب لامتناهية .

ولعله من الظواهر الجوية التى استوقفت الكثير من الرحالة الغربيين عبر العصور ، فالألمانى غيرهارد رولفس فى رحلة عبر افريقيا فى شهر مايو عام 1865 فى فصل الربيع أثناء عبوره الحمادة الحمراء يقدم لنا هذا الوصف ...( منذ مدة كان يهب القبلى وهو ماندعوه فى أوربا بالسموم وبدت الشمس وكأنها كرة نارية متوهجة .وكانت الحرارة تلفح الوجه والهواء ساكن تماما إلا أن غيمة سوداء كانت تقترب بتؤدة لم تدع أى شك بأن عاصفة هوجاء ستهب قريبا. وكانت الشمس تزداد احمرارا والحرارة تضغط وغدا التنفس عسيرا . الآن وصل الشبح وقد أدارت جمالنا ظهرها من تلقاء نفسها كى لايدخل الرمل فى عيونها كما أنها جثت دون أن تؤمر . إن ظلمة تامة أخذت تلفنا فقد حالت العاصفة الرملية التى يبلغ ارتفاعها عدة مئات من الأقدام دون وصول نور الشمس . وساد جو كما لو أنه خسوف ، لقد استقلينا بجانب ظهر الجمل كى نتفادى الرياح الرملية . لقد جف الفم والحلق وامتلأت العينان والآنف والأذن بالرمل ، ومن الخطأ الزعم إن البدو يستلقون على الأرض لأن السموم لاتهب فوق سطح الأرض مباشرة بل تبقى فى الهواء من أين ستأتى هذه الكميات من الرمال لو أن العاصفة لاتهب مباشرة فوق الأرض. إن المرء يستلقى لأنه لايستطيع أن يرى وقد تحمله الريح أو ترميه ، لقد مضت العاصفة بسرعة مثلما أتت بسرعة ، ولم تستمر أكثر من عشرين دقيقة ).
  فى حين يصف عالم الجيولوجى الفرنسى ليون برفينكيير المشى وسط هبوب رياح القبلى ..( ليس المشى وسط الكثبان أثناء هبوب رياح القبلى بالأمر الهين ، فقد وصلت الرمال إلى داخل أفواهنا ، دون نظارات كان من المستحيل فتح عيوننا وكانت السماء مظلمة بسبب الرمال المتطايرة وكأنها ضباب جاف. يجب أن لا نصدق قصة الاسطورة التى تتحدث عن قوافل بلعتها الرمال).

أما الرحالة الانجليزى جيمس هملتون فيقدم نصيحة للرحالة الغربيين ممن يفكرون فى زيارة قورينا بأن يتخذوا من الكهوف الموجودة بالقرب من المنحدرات الشرقية لوادى بلغدير حيث يعتبر مكان محمى دائما من هبوب الرياح المحملة بسحب الغبار ، فيقول : هذا المكان يعد من أفضل الأماكن التى لايمكن أن يدخلها الغبار أبدا حتى لو اشتدت هبوب الرياح القوية ، لذا فأنى انصح أى رحالة أن يتخذه مكانا ً لإقامته ).

ويبدو أن رياح القبلى الحارة قد تسببت بمرض احد حراس قافلة الاخوان بيتشى فى أثناء عبورهم لمنطقة ساحل بنغازى عند طلميثة فى فصل الربيع من عام  1822...فهو يدون التالى ..(  ففى هذه الأماكن يمكن للمرء تخيل كيف تتحول مثل هذه الجهات إلى مستودع - أى منطقة السوق بمدينة بنغازى - يتسبب فى نشر أسباب الحمى ، وبالذات حين تسود الرياح الجنوبية ). 

هذا ويصف لنا الصحفى الفرنسى جورج ريمون فى أثناء تغطية الحرب الليبية الايطالية عام 1912 مروره فى المنطقة الوسطى بالشريط الساحلى حيث تقع نقاط لمراقبة التلغراف التركى و بلدات صغيرة ومزارع نخيل فيقدم لنا وصف دخوله لبلدة سرت الصغيرة وكيف كانت معظم مبانياها القليلة تغرق وسط الكثبان الرملية نتيجة لشدة عواصف القبلى التى تردم كل شىء أمامها .

 (..كانت تبدو لى من وراء كثبان الرمال بضعة من بساتين النخيل التى كانت الرمال تنهمر عليها كالمياه . ومن فوق تل هب عليه الإعصار ، شاهدت أمامى الشرطى المرافق وهو يشير الى بلدة سرت التى لمحها عن بعد ، ولكننى حدقت فى الاتجاه الذى أشار إليه فلم أرى سوى جو أربد كانت تحوم فيه سحب صفراء متضاربة ).

كما يقدم الرحالة الدنماركي ( كنود هولمبو) فى طريقه لمقابلة عمر المختار فى الجبل الاخضر وأثناء قطعه لصحراء سرت الموحشة هذا الوصف لما لاقاه طوال الطريق من مشاق ومصاعب وخاصة مع هبوب رياح القبلى التى لم يعتادها هو ورفيقيه الغربييين ..( و هكذا غدا الوضع يائسا : لم يكن لدينا ماء ، كما لم نأكل شيئا طيلة الساعات الثماني و الأربعين الماضية بسبب ما عانيناه من اضطراب معدنا بعد تناولنا الماء الملوث . و كان يستحيل علينا ازدراد الطعام بدون ماء . و بعد بحث عاجل قررنا التخلي عن السيارة . و شربنا بقدر ما نستطيع من الماء الموجود في الرادياتور و أخذنا الباقي معنا . و هكذا بقى لدينا أمل ضعيف في الوصول إلى بئر مردومة أحياء).   

قارب كنود و رفيقاه الموت بسبب العطش و الجوع و رياح القبلي و برودة ليالي الصحراء القارية ، و شاهدوا في مأساتهم مأساة الآخرين متمثلة في جثث المقاتلين العرب مبعثرة في الصحراء و الحيوانات النافقة ، حتى قيضت لهم النجاة عن طريق الايطاليين الذين بدأوا البحث عنهم ، عند عدم وصولهم للعقيلة كما كان متوقعا. 

 قد يبدومن الطريف تحويل  العجاج او القبلى الى تدوينة طويلة ، ولعل مادفعنى لذلك  ما سجلته هنا خلال الاعوام الماضية حول هذه الظاهرة الجوية المرتبطة بمدننا الليبية بالاخص بنغازى جعلنى ارغب فى مشاركة زوار محيطى بها ، فالقبلى يترك بآثاره على امزجتنا وارواحنا ، وسأختم بنص الفاخرى الذى عبر من خلاله عما يعترى ارواحنا فور سماعنا لزخات المطر كما الآن فى هذه الساعة المبكرة من يوم الاربعاء ، بعد قضاء يوم طويل ومرهق ملىء بالاتربة والغباروبرفقة السيد (عجاج) ... فيما تقف أنت خلف النافذة، في الغرفة (211) رانيا إلى عروق المطر فوق الزجاج، منصتا بين حيـن و آخر إلى أولى الأصوات المنبعثة في المدينـة عند الفجر . إلى صياح الديكـة . و نباح الكلاب عبر السكون . حالما بأن المطر قد غسل المدينة الآن . و الناس .. و جعلهم طيبين تماما ً ..