الأحد، 17 يوليو 2011

فى غياهب المجهول ..قصة رحلات روى تشابمان اندروز(1)


ولد روى تشابمان أندروز فى مدينة بيلويت بولاية ويسكونسن عام 1884م ، كرس حياته لدراسة التاريخ الطبيعى منذ البداية حيث يقول عن هذا الاختيار بأنه:" منذ بدأت أعى الأمور ، عقدت العزم دائما ً على أن أكون عالما ً طبيعيا ً ومستكشفا ً، ولقد أدرك والدى هذه الحقيقة منذ فجر حياتى ، فبدلا من محاولة توجيه ميولى فى اتجاهات ثابتة رتيبة ، تركونى أهيم فى الغابات والحقول المحيطة بمنزلنا فى مدينة بيلويت
Beloitجنوب ولاية ويسكونسين ، مما بعث الغبطة فى قلبى، فتعلم تحنيط الطيور والحيوانات ، وعن طريق العمل فى هذا الجانب استطاع الحصول على نفقات كبيرة من تعليمه فى كلية بيلويت .


عند تخرجه من كلية بيلويت عام 1906 ، التحق للعمل بمتحف التاريخ الطبيعى بمدينة نيويورك الذى تركزت منتهى احلامه وقمة وذلك لأن العمل فى مثل هذا المتحف والقيام برحلات الاستكشاف هما أوج السعادة بالنسبة الى روى ولم يكن من السهل الحصول على وظيفة فى ذلك المكان ، ويقول روى عن تلك المقابلة :" فقد ذكر لى المدير أنه لا توجد وجود وظائف شاغرة من أى نوع بالمتحف، فأحسست بقلبى يسقط بين قدمى" إلا انه لم يستسلم وعرض على المدير ان يمنحه أى وظيفة حتى وأن انحصرت مهامه بتنظيف ارضية المتحف، امام هذه الاصرار وافق مدير المتحف على أتاحت الفرصة امام روى مقابل أربعين دولارا ً شهريا ً.

الأشهر الأولى بالمتحف

كانت واجباته تتضمن مسح الأرض ومساعدة جيمس كلارك فى قسم التحنيط ، ويتذكر روى عن تلك الفترة قائلا:" لم يكن هناك مكان فى نيويورك ملك على وجدانى كالمتحف فلم أحس قط بالسعادة التى غمرتنى فى تلك الأشهر الأولى ، ولم يكن قد مضى على عملى بالمتحف سوى بضع أشهر قلائل ، حينما هبطت علىَ فرصة عظيمة من السماء، حيث كلفه مدير المتحف بالمساعدة فى تشييد نموذج من الورق لحوت بالحجم الطبيعى لتعليقه فى دهليز الطابق الثالث للمتحف ، ورغم عدم خبرته فى عالم الحيتان إلا أنه وافق على المهمة التى اخبره المدير بأن نجاحه فى انجازها سيتم مكافأته عليها، وبالفعل ساهم فى نجاح صنع ذلك النموذج الورقى الذى ظل معلقا فى الدهليز بمتحف نيويورك لمدة تزيد عن الخمس عقود ومازال محتفظا ً بجدته حتى الآن ، فكم من ملايين الأعين حملقت فى هذا النموذج الذى يعتبر من أروع المعروضات التى تنال اعجاب زوار المتحف حتى اليوم .
حوت أماجانست

مساهمة روى فى تشييد نموذج الحوت كان نقطة تحول هامة فى حياته ، فقد منحته ترقية من مهمة مسح الأرض ، الى وظيفة افضل بالمتحف ، وتعلم من خلالها كيفية التعامل مع الناس ، كما دفعته إلى التفكير والقراءة فى موضوع الحيتان.

ثم حصل على فرصة أخرى عندما كًلف مع جيم كلارك للحصول على الهيكل العظمى لحوت قُتل بالقرب من ساحل لونج أيلاند فى أماجانست ، وقد اتُيحت الفرصة لروى كى يقوم بوصف حوت أماجانست من خلال إعداد أول بحث فى حياته العلمية ، قام بتقديم وصف حوت أماجانست ، وقد تبين لروى من خلال قيامه بدراسة الحيتان من خلال بحوث خاصة بها ، اوضحت لروى أن المعلومات المتداولة عن عادات هذه الحيوانات وحياتها، بعيدة كل البعد عن الدقة العلمية .


لقائى الأول مع حوت حى

فى ربيع عام 1908 بدأ روى أول بعثة كشف حقيقية فى حياته ، إذ قرر الالتحاق بالمراكز المنشأة حديثا ً على الساحل الغرب لجزيرة فانكوفر وجنوب شرقى ألاسكا، للقيام بدراسة وجمع نماذج الحيتان التى يتم قنصها فى تلك الاماكن الساحلية.

كان ينطلق فى سفن الصيد كل يوم تقريبا ً لدراسة تفاصيل حياة الحيتان ، فتمكن من تقدير الفترة التى تقضيها الحيتان على سطح الماء أثناء تناول الغذاء، وعدد المرات التى تنفث فيها الماء، وطريقة استخدامها لزعانفها وذيولها، وكيفية اتصال الحيتان بعضها ببعض، حيث تبين من خلال الأجهزة الصوتية عن مجموعة مذهلة من الأصوات التى تحدثها هذه الحيوانات.

كما ان روى كان لديه فضول تجاه الحياة الخاصة للحيتان فيقدم وصف شيق لهذا الجانب من دورة حياة الحوت ، وقد كانت هذه المرة الأولى التى يصف فيها أحد العلماء عملية الاتصال الجنسى بين الحيتان فيقول روى : " لم يكن من اللياقة أن اتجسس على الحياة الخاصة بالحيتان ، فمن أعلى سارية السفينة أخذت أرقب خلال منظارى المكبر، فترة الغزل بين زوج من الحيتان الحدباء يبلغ طول كليهما خميسن قدما ً، قد يكون الحوت العاشق شيئا ً طريفا ً للغاية بالنسبة إلينا، غير أنه ما من شك يثير فى قلب وليفته مايثيره فتى الأحلام فى قلب فتاة متفتحة للحب، والذى حدث بالضبط هو أن ذكر الحوت قام بسلسلة من الاستعراضات البهلوانية ، تستهدف بالطبع استهواء أنثاه وإثارة غريزتها الجنسية ، فانتصب أولا قائما على رأسه بينما امتد ذيله وخمس عشرة قدما ً من جسمه فوق سطح الماء، وبدأ يلوح بذيله الضخم فى بطء، ثم تزايدت سرعته ، حتى تحول الماء إلى زبد كثيف ، وأصبح صوت لطماته الرهيبة على السطح مسموعا ً على مبعدة ميل ، ثم انزلق ملتصقا ً بأنثاه ، وأخذ يتدحرج وهو يربتها بزعنفته اليمنى التى يبلغ وزنها طنا ً تقريبا ً، وقد استلقت الأنثى على جانبها وبدت مستمتعة بلمسات الغزل، وعندئذ تراجع إلى الخلف ، وغاص فى الماء ، فخيل إلىَ أنه قد تركها إلى غير رجعة ، إلا أنها ظلت مستلقية فى هدوء على سطح الماء ، إذ كانت أنه قد تركها إلى غير رجعة، إلا أنها ظلت مستلقية فى هدوء على سطح الماء، إذ كانت تدرك تماما ً أنه لم يهجرها بعد، واختفى الذكر زهاء أربع دقائق ثم اندفع فجأة من الماء فى وثبة هائلة ، قاذفا بكل جسمه – الذى يبلغ طوله خمسين قدما – مائلا فى الهواء ... بذل الحوت جهدا ً رائعا ً يدعو إلى الاعجاب ، وتراجع إلى الخلف ، مثيرا ً عاصفة من الرذاذ ، ثم أخذ ينزلق نحو فتاة أحلامه ، حتى ضمها إليه بكلتا زعنفتيه ، وانتهى كل شىء فى لحظة خاطفة ، واستلقى كلاهما على السطح ، وهما ينفثان الماء فى بطء ، وقد نال منهما الانفعال،أحسست بالحرج لتجسسى على علاقة الحب بينهما ، ولكن قبطان السفينة كان أقسى منى قلبا ً، فلم يتأثر مطلقا ًبهذا العرض الغرامى ، وانصرف عقله المادى عن كل شىء سوى آلاف الدولارات التى تجلبها جثث الحيتان عند استخلاص الزيوت والسماد منها.ومن أعلى سارية السفينة ، توسلت إليه مستعطفا ً أن يترفق بهما ، ولكن دون جدوى ، فقد انزلقت السفينة عن كثب من الإلفين وهما فى شبه غفوة ، ثم انطلقت الحربة لتنفجر فى جنب ذكر الحوت العاشق.وبعد نصف الساعة ، كانت أنثاه أيضا َ قد لقيت مصرعها ، إذ أبت أن تغادر المكان الذى ترقد فيه جثة حبيبها القتيل".


مولد حوت صغير

وحدث ذات يوم أن جىء إلى مركز الصيد بجثة لأحدى أناث الحوت ضخمة ذات زعنفة ظهرية فى حالة وضع ، تم قتلها على بعد بضعة أميال من الشاطىء، حيث يحتمل انها كانت تبحث عن مياه هادئة لتضع وليدها ، وفور جذب جثتها خارج الماء إذ بحوت صغير يخرج إلى الحياة أمام عيناى روى وباقى طاقم السفينة وبذلك يكون روى اول عالم طبيعى يشهد مولد أحد الحيتان ، وقد بلغ طول الحوت الوليد اثنين وعشرين قدما ً ووزنه نحو خمسة عشر طنا ً، وكان لبن الأم ينضح من اثدائها فقام روى بحلبه منه ملء دلو بنفس الطريقة المتبعة فى حلب الأبقار، ولم يكن طعمه مستساغا ً لتشبعه بالغازات الناتجة عن التعفن.

هذه الولادة دفعته للبحث حول طريقة التناسل عند الثدييات المحيطية التى لم يكن لدى علماء الحيوانات يعرفون عنها شىء ، وقد اتضح لروى أنه لا يوجد موسم معين لتوالد الحيتان، وأنه يبدو لبهجة الربيع بعض الأثر فى عملية الاتصال الجنسى بينها.وبأن نظام حياة الحيتان قائم على حرية الحب بحكم تجوالها فى كل أنحاء المحيط ، وان كانت الامهات الحيتان يدركن عاطفة الأمومة على أقل تقدير من خلال الحالات التى قام روى بدراستها ، فقلوب الحيتان الضخمة التى لا تقل حجما ً عن خزانة المكتب ، تملك مشاعر العاطفة الحانية .

ونتيجة لمساهمة روى كأول عالم طبيعى يدرس الحيتان فى البحر مضمنا ً تلك الابحاث المزيد من الحقائق الجديدة عن الحيتان الحية والميتة ، وألتقاطه صور لأضخم مجموعة فى العالم من ثدييات المحيط التى يكتنفها الغموض، دفعت بشخصية روى الى واجهة عالم الصحافة الغربية ، إذ احدث ضجة عنيفة عند نشر ابحاثه ومقالاته بالصحف ، كما قام بالقاء سلسلة محاضرات حول الحيتان لاقت اقبالا كبير من الامريكيين.

وفى ربيع عام 1909، قام روى برحلة استكشافية قصيرة برفقة مجموعة من المستكشفين الكنديين إلى نهرى سانت لورانس وساجوينى لصيد خنازير البحر البيضاء، وكان روى يأمل العودة بإحدى هذه الأسماك حية لعرضها فى "معرض نيويورك الأحياء المائية"، إلا أن الظروف لم تكن ملائمة ، ومع ذلك تمكن من صيد أربعة نماذج طعنا بالحراب ، ثم صنع لأضخمها قالبا ً من الجبس، ومازال هذا النموذج معلقا ً حتى الوقت الحالى فى"قاعة الحياة المحيطية " بالمتحف الأمريكى.