الثلاثاء، 18 يناير 2011

رحيل عراب الكتاب والنشر فى وطنى..


يوم الاثنين الفائت عند قرائتى لبريدى الالكترونى كعادتى كل صباح ، وجدت رسالة من الصديق غازى تحمل الى خبر حزين يتعلق بوفاة السيد محمد الفرجانى الناشر الليبى او عراب عالم الكتب فى ليبيا عن ثمانية وثمانون عاما ً، قضى معظمه فى الاشتغال على ترجمة الكتب المتعلقة بتاريخ ليبيا وآثارها ، والعمل فى النشر وافتتاح مكتبات توفر غذاء العقل مساهما ً فى تلييب صناعة الطباعة المحصورة فى فترة ماقبل الاستقلال الحديث بايدى الطيان او الاقليات الاجنبية التى كانت تعيش فى بلادنا فى ذلك الوقت ...بعد قرائتى للرسالة الحزينة قضيت بعض الوقت فى تقليب عيناى فى ارفف الكتب المرصوصة امام مكتبى التى تضم غالبية اصدارات دار نشره خلال سنوات الستينات وبداية السبعينات مسترجعة كل ما قرأته حول الراحل اوالتفكيرفى مدى تأثيره فى حياتنا بطريقة او اخرى ،وعندما اخبرت ماما عن الخبر ترحمت عليه كثيرا ، وعلقت بأن كتبه كانت كقناديل تضىء الطريق المعتم امام الليبيين فى سنوات مابعد الاستقلال الحديث لبلادنا، فذهاب والدتى الى الجامعة الليبية فى منتصف الستينات كى تدرس فى قسم التاريخ الذى يتوفر به نظام اانتساب يساعد الطلاب والطالبات المنتسبين الى الجامعة من مدن ومناطق بعيدة وكانت والدتى احد اولئك المستفيدين منه فقد كانت تعمل وتدرس فى الوقت نفسه قبل ان تتحصل على منحة للاكمال دراستها، والتحاقها بالجامعة منحها فرصة توسيع آفاق قراءاتها والحصول على كتب احدث واكثر تنوعا اشترت غالبية اصدارات الفرجانى فى سنوات دراستها الجامعية ومابعدها، فكثيرا ماتحدثت عن تلك السنوات وعن جيلها المولود بعد الحرب العالمية واندحار الاستعمار الايطالى وماكان يعيش من حالة تعطش لمعرفة كل مايخص تاريخ بلاده ومايتعلق به من احداث وشخصيات ساهمت فى تشكيل هويته عبر العصور، وعندما بدأت تستحوذ على عادة القراءة منذ سنوات الطفولة المبكرة وجدت نفسى فى سن ال13 مفتونة بكتابين الاول (تاريخ برقة السياسى والاقتصادى )للمرحوم الدكتور رجب الاثرم/ من سيكون المشرف على اول اطروحة علمية اعدها فى مرحلة الدراسات العليا/ وهو من منشورات مكتبة قورينا لصاحبها السيد عبدالمولى لنقى، اما الكتاب الثانى فهو كتاب (عشر سنوات فى بلاط طرابلس) لمس توللى والذى قامت مكتبة الفرجانى بترجمته ونشره فى سنوات الستينات، ونظرا لجمال اسلوب الكاتبة والسحر المبعث من حكايات والاحداث التى تسردها لاقى هذا الكتاب رواج كبير حيث اعُيد طباعته اكثر من مرة ، ثم قمت بقراءة باقى كتب الفرجانى التى وجدتها فى مكتبتنا المنزلية فى سنوات الدراسة الجامعية ، وكانت لوالدتى عادة تسجيل تاريخ شراء كل كتاب على الصفحة الاولى او الاشارة لبعض الاحداث العامة للبلاد او الشخصية المتعلقة بحياتها وحياة اسرتها حيث ارتبط كل كتاب بحدث او منابسة او ذكرى جميلة او حزينة... فى صباح الاثنين الفائت كنت قد قررت فى اليوم السابق كعادتى بين فترة واخرى المرورعلى مكتبة الاستاذ عبدالمولى لنقى لشرء مجموعة روايات بهاء الطاهر،فى الطريق كنت اتأمل ماتركه اولئك الرجال الرائعين من تأثيرات عميقة فى حياة بعضنا ، فقد احبت والدتى القراءة والكتب خاصة المتعلقة بتاريخنا فسعت كى نكتسب عنها عادة القراءة وخلق صلة حميمة مع الكتاب وعالم المكتبات اينما عشنا وحللنا، حتى وصل بى الشغف الى ربط صورة فارس الاحلام ببائع كتب ، جاعلة من نفسى هدف لتعليقات هزلية من صديقاتى وقريباتى، عندما استقر بنا الحال هنا وجدت بأن الاهتمام بالكتب والمكتبات يكاد يصل الى الصفر ، وقد استغرقت وقت لابأس به حتى استوعب المحاور الاساسية فى اهتمامات الليبيين تجاه الحياة وماتحويه ، أما اثناء سنوات دراستى الجامعية وجدت ضالتى فى المكتبة المركزية للجامعة والتى تضم مايقارب النصف مليون كتاب ومخطوطة ودورية قديمة وحديثة ، ورغم كل ماتعرضت له من اهمال، وشاركننى فى هذا النشاط صديقات رائعات ، فكنا نتبادل ونشترى ونتحدث وقت طويل حول الكتب وعوالمه وكان كتاب مس توللى السيدة الانجليزية التى عاشت قريبة من البلاط القرمانللى واحدة من تلك الكتب المفضلة لدى صديقاتى الحميمات جيجى وزيزى وكثيرا ماشاركنا عمى مصطفى والد زيزى النقاشات والاحاديث والنقاشات حول ذلك الكتاب فى جلساتنا الجميلة بحديقة بيتهم، مع كتاب آخرمن منشورات الفرجانى سحرنا باجواءه ومغامراته ومايحويه من سرد لتراث فنى انسانى غنى ، وهوكتاب( لوحات كهوف تاسيلى )للرحالة الفرنسى هنرى لوت الذى تناول عبره تجربته فى الصحراء الليبية فى اثناء اكتشاف وجمع وتوثيق لوحات الفن الصخرى للاقوام التى سكنت الصحراء فى فترات موغلة ماقبل التاريخ،وفى سنوات دراستى العليا وجدت اننى اعود للاعتماد على الكثير من الكتب التى اصدرتها مكتبة الفرجانى او قامت بترجمتها ، لاكمل مجموعتنا المنزلية من اصدارتهم عبر شرائى لما صدر عن المكتبة التى اصبحت دار نشر لها اكثر من فرع تتوزع مابين القاهرة وطرابلس ولندن


فى اثناء حياتى خارج ليبيا كنت اتعرف على تاريخ ونهضة اوربا اثناء عصر التنوير واحاول دراسة وتعميق فهمى حول الاسباب والعوامل التى ساهمت فى صناعة تلك النهضة الاوربية واخرجت القارة العجوز الى عالم اكثر رحابة ونور وعلم وتقدم ، وكان من الاشياء التى ساهمت فى خلق تلك النهضة هو تكاثف جهود مختلف المؤسسات والافراد من اجل بلدانهم الاوربية ، فقد كان لرجال الاعمال المثقفين دور هام فى رعاية ودعم الفنانيين والعلماء والفلاسفة ودعم حركة النشر، وربما هذا ماادركه السيد محمد الفرجانى ودفعه للعب نفس الدور فى بلادنا حينما مزج مابين تحقيق مكاسب مادية تضمن له الاستمرار فى العمل ، مع الاهتمام والتركيز على نشر الكتب التى تغذى الهوية الوطنية لليبيين ، فقام بترجمة ونشر غالبية الكتب التى تتناول الرحالة والرحلات الاوربية والعربية عبر التراب الليبى ، كما تنوعت الاصدارات لتشمل نشر كتب وروايات لكتاب ليبيين :(نحو غد مشرق )للاستاذ محمد فريد سيالة، والشابي وجبران للاستاذ التليسي وجحا في ليبيا للاستاذ على مصطفى المصراتي ،و دواوين (الحنين الظامي) علي الرقيعي،و(احلام وثورة) علي صدقي عبد القادر،وكتب تراثية مثل المنهل العذب في تاريخ طرابلس الغرب لابن غلبون، و مسرحية للاستاذعبد الله القويري عن عمر المختار و(مجموعة قصص حياتهم )و مسرحيات للاستاذعبد الحميد المجراب .


عندما عدت مساء ً للقيام بجولة على المواقع الليبية كالعادة وجدت الكثير منها تنعى الراحل وتشيد بصفاته الشخصية واعماله ومآثره وقيام بعض الشخصيات السياسية والادبية بتناول جوانب من سيرة الرجل المهنية فى عالم الكتب والاعمال ، تذكرت وقتها اننى فى السابق احببت دائما تسليط الضوء على تلك التجربة وتجارب غيره وحيواتهم، هذا ماجعلنى اقوم بإعداد مقالة ضمن قسم رواق التاريخ بموقع جيل الليبى عبر عرض جوانب من تجربة الراحل بمناسبة يوم الكتاب العالمى الذى يوافق يوم 14 ابريل من كل عام وهى المناسبة الثقافية التى تحتفى فيها منظمة اليونسكو بالكتاب والمكتبات عبر العالم ، لم اكن ادرك بأن للسيد محمد الفرجانى مساهمات فى صناعة الموسيقى والسينما والمسرح فى بلادنا ، نظرا لعدم الاهتمام بالكتابة عن فترات وشخصيات واحداث تخص تاريخ ليبيا خاصة مابين سنوات الثلاثينات والستينات ، وربما يرجع هذا للاسباب عديدة منها الموانع السياسية والكسل والاقتصار على تناول مواضيع مكررة ، بات القارىء او المتابع يحفظها عن ظهر قلب ، فقد تم حصر الكتابة التاريخية حول فترة الجهاد الليبى وبعض رموزه وكأن من جاء قبل وبعد لا يستحق ان يدون ولو جزء صغير من مجهوداته واسهاماته، ربما هنا قد يعلق البعض بأن تناول شخصية كالسيد محمد الفرجانى لا يدخل فى اطار كتابة التاريخ للبلد ،وقد يتناسى ان مكتبته الصغيرة فى تلك الفترة الصعبة من تاريخ بلادنا وفرت للناس فرص للقراءة واقتناء الكتب والمجلات والتزود بالمعرفة والاطلاع على مايجرى من حولهم عبر المطبوعات التى يوفرها، وقد يبيعها لبعض الزبائن من الطلاب المحتاجين على ان يقوموا بدفع ثمنها آخر الشهر عند توفر المال ، وهذا الامر ترك أثر لا يمحى فى حياة اشخاص كثيرين ربما دون ان يدرك هو عمق ذلك الاثرالذى صنعه عبر نشاطه المعرفى والتنويرى آنذاك، كنت اقارن بما يقوم به البعض من اصحاب محلات بيع الكتب اليوم فى بعض الدول العربية من مراقبة الزبون والالحاح عليه كى يقوم بدفع ثمن الكتاب قبل ان يلمسه او يقلبه قليلا، ذلك الاسلوب الذى اتبعه السيد الفرجانى فى البيع لم يكسبه زبائن اوفياء لمكتبته ، بل وصداقات الكثير منهم خاصة من اصبح يتعاطى الكتابة والثقافة والنشر ، وهناك الكثير من الاسماء التى لا يمكن حصرها منهم :اطباء ومهندسين و كتاب ومثقفين ومسؤلين ووزراء وشخصيات عامة ليبية وعربية واوربية كانوا يترددون عليه ويقتنون كتبه او مايجلبه من اصدارات حديثة من بيروت والقاهرة واوربا.


قد لا يتفهم البعض بأن عودته للعمل فى عالم النشر فى انجلترا والاهتمام بالكتب الصادرة حول تاريخ بلاده وآثارها يعكس جانب من جوهرهذا الرجل العظيم الذى بتنا نفتقد أمثاله من اصبحوا يمتلكون ملايين اكتسبوها بطرق شرعية او غير شرعية ولكننا لم نسمع عن اى مساهمات فى صناعة النشر والكتب او الموسيقى والمسرح والسينما فى ليبيا ، فلنهوض بالاوطان يأتى بتكاثف الجهود الرسمية والفردية لتصب فى مصلحة الوطن والمواطنين،فى اثناء مرافقتى لبابا رحمه الله لبعض المناسبات الاحتفالية او الاقتصادية كنت اتعرف على بعض سيدات ورجال اعمال لبنانيين واوربيين يدعمون انشطة ثقافية وفنية غير ربحية ، كنت اتمنى ان ارى هذا النموذج فى بلادى.

كما كان للفقيد مساهماته فى العمل النقابى إذ يذكر الاديب الليبى احمد ابراهيم الفقيه وهو على صلة قوية بالراحل : " في مايو 1950 قرّرت الإدارة العسكريّة البريطانية إصدار تشريعات تنظّم شؤون (المخدومين والمستخدين، بما فيها قانون خاص باتحاد النقابات العماليّة والمنازعات أثناء العمل والمفاوضات الجماعيّة। ثم جاء إليها خبير بريطاني في الشؤون العماليّة وهو مستر هودسلي، لكي يتفقّد أحوال الحركة النقابيّة التي انصهرت مع الأحزاب السياسية في نشاط المطالبة بالإستقلال والوحدة، واجتمع الخبير بمسؤولي إتحاد نقابات العمال الليبيين وكان رئيسه محمد بشير الفرجاني، في محاولة لكي يبعدهم عن الإنخراط في النضال السياسي، إذ أن الفرجاني أشار بصراحة إلى حق العمّال في استعمال أسلوب الإضراب لنيل حقوقهم، فرد عليه الخبيرالبريطاني بأن هذا الأسلوب يُفقد العمال مؤازرة الرأي العام الذي تتضرّر مصالحه نتيجة الإضراب، ولذا فهو ينصح بالإبتعاد عنه، ثم واصل الفرجاني نشاطه وكان مع محمد دخيل، الذي أصبح فيما بعد تاجرا موسرالحال وشخصيّة سياسية، أوّل موفدين إلى تونس لعقد إرتباطات تعاون مع الإتحاد التونسي للشغل وقادته).

ربما كان للسيد محمد الفرجانى جوانب واسهامات لم يتم تناولها او الحديث عنها رغم وجود من يتناول بشكل مقتضب دور الراحل مشاريع تخص البنية التحتية ومشاريع اقتصادية وطنية ، بالاضافة الى عالم النشروالثقافة والترفيه ،و قد يتنبه احد البحاث لاهمية الامر ويقوم بإعداد كتاب يتناول مختلف جوانب حياة واعمال الراحل يساهم فيه بتسليط الضوء على سيرة حياة هذا الرجل ومكانته فى عالم النشر ، وقد تدرك المؤسسات الثقافية الرسمية فى بلادى ضرورة تكريم هذا الرجل ولو بعد رحيله ،وقد اشار ابنه البكر لتفكيره بتكريم ذكرى والده عبر إنشاء جائزة تحمل اسمه أو البحث عن طريقة او وسيلة مناسبة لذلك، وبرأيى هذا يعكس تفكير حضارى وسلوك انسانى راقى وسيقدم مثال عملى على كيفية الاحتفاظ بذكرى اعمال وحيوات اشخاص عظام كانت لهم تأثير عميق فى حياة وتاريخ مواطنيهم واوطانهم.