الثلاثاء، 24 أبريل 2012

قصة مكتبة النجاح فى اليوم العالمى لخير جليس

 

تحت شعار (أعز مكان في الدُّنى سرج سابح.. وخير جليس في الزمان كتاب)الذي اختارته اليونسكو هذا العام لاحتفال باليوم العالمى للكتاب جرت احتفاليات فى كافة أرجاء المعمورة  باليوم العالمى للكتاب وحقوق المؤلفين ، وقد جرى الاحتفال بهذه المناسبة للمرة الاولى  فى العام 1995 وعيا بأهمية القراءة ودورها في نشر المعرفة، واعترافا بقيمة الكتاب ، و رغم ما مر على بلادى من احداث دامية من ثورة سلمية تحولت الى حرب ابادة شرسة شنها حاكم مختل عقليا على ابناء شعبه ، رغم كل ذلك لم ينسى الليبيين ان يقيموا هذا العام احتفاليات بسيطة وبرامج للترويج للكتاب وللقراءة بين شرائح الشعب الليبى ، كما شهدت بنغازى فى عز ايام الحرب معارض للكتب الممنوعة ايام حكم القذافى الذى وضع قوائم تضم عناوين لمؤلفين معارضين قُتلوا بالداخل  كالدكتور عمر النامى او من رجال المعارضة المقيمين بالخارج مؤلفات الدكتور فتحى الفاضلى والدكتور محمد يوسف المقريف ، و كما حاول القذافى طوال عقود اربعة طمس وتشويه وتغييب التاريخ الليبى على مر العصور من الكتب الدراسية و ووضع قيود على المنشورات والمطبوعات لكى يساهم فى تجهيل ابناء شعبه، وربما هذا مادفع النظام السابق لوضع يده على المكتبات الخاصة ودور النشر لتضييق الخناق على الشعب واحكام القبضة الحديدية عليه ، فى شهر يناير عام 2011 قبل انفجر الاوضاع فى بلادى وخروج الناس الى الشوارع ثائرين عشية 15 فبراير كنت قد عرضت جوانب من سيرة حياة (السيد محمد بشير الفرجانى) احد رجال الاعمال الوطنيين ممن كرسوا جزء من جهدهم ووقتهم ومالهم لاستثمار فى الكتب والنشر بهدف الارتقاء بأبناء وطنه ، وكنت قد قررت آنذاك  ان ادرج ماكتبته من قبل الدكتورة فوزية محمد بريون حول ذكرياتها عن مكتبة السيد والدها المعروفة باسم مكتبة النجاح بسوق الترك بمدينة طرابلس قبل ان ادرك مايخبئه الله لليبيا من احداث مؤلمة وقعت ذلك العام.

 عرف مثقفو الخمسينيات والستينيات والسبعينيات وكتابها وأساتذتها وطلابها، مكتبة النجاح بمقرها بسوق الترك بمدينة طرابلس ، مركزاً يزوّد محبي العلم والمعرفة بأمهات الكتب ، وزبدة المصادر، وآخر ما كانت تصدره دور النشر في القاهرة وبيروت ودمشق وحلب في العلوم الإسلامية على تنوعها ، وفي الأدب والنقد والتاريخ ، وفي مختلف فروع الفكر. وكانت مع مكتبة الفرجاني ، ومن بعدها مكتبة الفكر أشهر مكتبات مدينة طرابلس ، وأحرصها على نشر الثقافة وتوزيع الكتاب ، بل ونشره.

وتعرف المدن العريقة والمجتمعات المجدة في ميادين العلم والمعرفة عادة بمكتباتها العامة والخاصة ، وبمدى انتشار الكتاب فيها، وبهامش الحرية الذي يتوفر لنخبتها المثقفة ، ولكل صاحب رؤية في بناء العقول وتهذيب النفوس. وقد عرفت بلادنا في العقدين الأولين من النصف الثاني للقرن الماضي ، على الخصوص ، بازدهار الحركة الثقافية وانتشار التعليم ونهضة الصحافة والدخول ، بخطىً وئيدة ، إلى عالم الكتاب الرحب ، كتابة وصناعة وتوزيعاً.


ولقد عاصرتُ مكتبة النجاح منذ نواتها الصغيرة الأولى ، حين كانت مقرّاً صغيراً بسوق المشير لاتتجاوز مساحته ثلاثة أمتار في ثلاثة ، حسب ما تسعفني به الذاكرة. وكان صاحبها والدي الحبيب ، أمدّ الله في عمره ، الحافظ العارف الزاهد الشيخ محمد بريون ؛ وهو شخصية معروفة بين جيله كونه أحد الرواد الذين أسهموا في مجال التربية والتعليم منذ أربعينيات القرن الماضي ، وجاهد في سبيل إقناع الناس بارسال أبنائهم إلى المدارس النظامية التي بدأت تفتتح ، فكان يطرق أبوابهم ليتحدث إليهم ويفنّد رأيهم في أن المدارس بدعة وأن أولادهم يجب أن يقتصروا على تعلم القرآن في الكُتاب . وقد نجح في إقناع العديد منهم باعتباره من خريجي الكُتاب ومن حافظي كتاب الله وممن واصل تعليمه الذاتي والتحق بدورات إعداد المعلمين ، وفوق ذلك فقد اختار التدريس في هذه المدارس ( وقد نقل لي هذه الواقعة الدكتورعبد المولى البغدادي عندما كان بآن آربر في السبعينيات) . والشيخ محمد بريون من المربين الأفاضل ، درس عليه العشرات من النخب الليبية التي كان لها دورفي النصف الثاني من القرن الماضي .


ولم يكن الوالد معلّما ومربيّاً فقط ، فقد تولى رئاسة تحرير مجلة "صوت المربي" في منتصف الخمسينيات ، و كانت تصدر عن نقابة المعلمين ، التي ترأس هيئتها الإدارية ذات مرة على ما أذكر. فقد كنت أصحبه كظله لاجتماعات ونشاطات تلك النقابة ، التي كان مقرّها بشارع بيروت المتفرّع من شارع حسونه باشا .. كما كنت أرافقه إلى المطبعة الحكومية لمراجعة مواد المجلة ، ولمحاضرات النادي الثقافي الليبي ، الذي أسهم في إنشائه مع صديقه الحميم الشيخ عبد السلام خليل رحمه الله ، ولمقرإدارة المطبوعات، حيث تولى فيما بعد رئاسة تحريرمجلة "هنا طرابلس الغرب" ، وكانت مكاتب إدارة المطبوعات بميدان الشهداء.


لم يكن أستاذي الأول الشيخ محمد بريون ، رعاه الله ، حافظاً لكتاب الله ، متفقهاً في شرعه فحسب (وكفاه بهما شرفاً ورتبة) ، وإنما كان إلى جانب ذلك كاتباً وشاعراً وملماً بعلوم العربية ، وبكثير من حقائق التاريخ والجغرافيا وعلم التصوف وغيره. أي أنه كان نموذج المثقف الحقيقي بين جيله. وربما لذلك لم تكن الوظيفة الحكومية والنشاط العملي المحدود بظروف الزمان والمكان ليرضي طموحه ويشبع تطلعاته، فكان يتملكه حلم التفرغ لخدمة العلم ، وذلك بنشره وتيسيره للناس إن لم يكن بتصنيفه وتأليفه ... وكان – وما زال – يرى بأن درجة ناشر العلم أعلى من درجة الطبيب،الذي ينطبق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلّم "من أحيا نفساً فكأنما أحيا الناس جميعاً "... فهذا يحي الجسد ، والعلم يحي العقل والقلب والروح . ولذلك فقد رأى أن يتعاطى شؤون الكتاب والمكتبات رغم قلة امكاناته المادية باعتباره موظفاً .. فأسس مكتبته الأولى الصغيرة عام 1954 بسوق المشير ، بجانب معهد عثمان باشا الديني ، وقرب مسجد أحمد باشا ، في وسط الشارع التجاري المزدهر ؛ فكان يرتادها طلاب العلم ومحبي الثقافة . وأذكر أنني كنت أجلس فيها وأنا ما زلت في سنيّ التعليم الإبتدائي الأولى لألتهم قصص كامل الكيلاني ، وأتنقل بين عوالمها السحرية ، لقدرتي القرائية بفضل إرسال والدي لي إلى كتاب صديقه المقرب الشيخ محمد صباكة رحمه الله بالمدينة القديمة حيث كنا نسكن ، والذي حفظت على يديه جزء عمّ .


بدأت مكتبة النجاح صغيرة محدودة حين كانت مشروعاً جانبياً في حياة صاحبها العملية ، إلاّ أنه سرعان ما قرر التفرغ لها والتضحية بالوظيفة الحكومية من أجلها ، والتجلد في سبيل تحقيق الحلم الذي تملكه طويلاً. وهكذا ، نقل المكتبة إلى مقر آخر بسوق الترك مقابل سوق الحرّارة وقريباً من جامع شائب العين وسينما النصر.. ولم يكن المقر الجديد واسعاً وإن كان أكبر من سابقه ، ولاأذكر تاريخ الانتقال ولعله كان في أواخر الخمسينيات أو أوائل الستينيات.. وفي تلك الفترة تجوّل الوالد بين القاهرة وبيروت ودمشق يختار الكتب ويعقد الصفقات ويستورد ثمرات الفكر وعصارة قرائح العلماء والأدباء ، محاولاً أن يسد بذلك نقصاً ، ويسهم في تأسيس جيل واع ، ويؤدي رسالة تكون له شافعاً عند مولاه ... ثم ما لبثت المكتبة أن كبرت واتسعت عندما تمكّن صاحبها من تأجير بيت عربي في " زنقة الفنيدقة " من عائلة بن كورة على ما أذكر ، وكان يقع خلف المكتبة ، ففتحه عليها ورممه وصفّ في غرفاته العديدة ووسطه الوسيع رفوفاً للكتب صنفت عليها حسب موضوعاتها ، فازدحمت ردهاتها بالزاور والمتلهفين على القراءة ، وأصبحت من أكبر المكتبات في مدينة طرابلس ولذلك كان يرتادها ناس كثر من خارج المدينة .. و قد شجّع والدي بعضاً ممن يعرفهم من زليطن والخمس ومصراته وسبها وغيرها بأن ينشئوا مكتبات في مدنهم ، حيث يمكنه أن يزودهم بما يحتاجونه بأسعار الجملة وبالتقسيط وبما يمكن من تسهيلات .. قاصداً بذلك خدمة العلم ونشر الكتاب والثقافة في أرجاء الوطن ما استطاع إلى ذلك سبيلاً... وبالفعل تحقق كثير من هذا ، وكان حينئذ قد دخل إلى عالم النشر ، فنشر عشرات الكتب القيمة أغلبها في مجال الدراسات الإسلامية ، وبعضها مدرسيّ ، يهدف إلى تبسيط المقررات المنهجية للمرحلتين الإعدادية والثانوية ، وخاصة المواد العلمية منها وتلك المتعلقة بتعلم اللغات الأجنبية مثل الإنجليزية والفرنسية .. وقد عرفت المكتبة اقبالاً كبيراً على هذه الكتب وخاصة في مواسم الإمتحانات.


وهكذا .. ازدهرت مكتبة النجاح ، وأقبل عليها كثير من محبي المعرفة من داخل طرابلس وخارجها على السواء .. بل من داخل ليبيا ومن خارجها ، حيث كان يتردد عليها العديد من أصحاب المكتبات في المغرب العربي ، الذين اعتبروها أقرب مصدر للكتاب المشرقي من مكتبات العواصم الأخرى ، كما عرفها وراسلها مهتمون بنشر العلم في مالي والسنغال وغيرها..بدأ عصر مكتبة النجاح الذهبي ينشر العلم والمعرفة ، ويغذي العقول والأفكار، ويغري الطموحين وطلاب الثقافة ... ولكن ما لبث أن اُذن للردة الثقافية والدمار العلمي والفوضي الإدارية ، فأعلن ما سمي زوراً بالثورة الثقافية ، وهجم الغوغاء المأمورون على المكتبات يمزقون " الكتب الصفراء" التي يعنون بها كتب التراث وعصارة الفكر الإسلامي .. ويحرقون مالم يلموا بفحواه ( والإنسان عدو ما جهل!) ... وأصبحت مكتبة النجاح مهددة بمصيرسيء لامفرمنه ... وفي ربيع 1980 وكان الجو في البلاد مشحونا ومحتقنا ومكفهراً ، جاء دورها بعد تربص ... فقدم إليها رهط (لعلهم من الهيئة العامة للنشر والتوزيع التي تأسست آنذاك لغرض تجفيف منابع الثقافة الحقيقية) بهدف الإستيلاء عليها مبنى وكتباً وأموالاً ، فطرد موظفوها وكان معهم أخواي ، عمر الأكبر سبعة عشر عاماً وعمر الأصغر ثلاثة عشر، ومنع أحدهما من حمل كتاب له كان يطالعه ، حيث خاطبه عبد اللطيف بوكر- غفر الله له – بقوله : بريون! هذا الكتاب ليس من حقك ! اتركه مكانه.
استولى هؤلاء على مكتبة النجاح ، أو بالأحرى استولت عليها الدولة العتيدة ... بالرغم من عدم وجود صاحبها ، وبدون أي مسوّغ قانوني أو أي سبب يعقله البشر .. صودرت المكتبة أو أممت بما فيها من الآلاف من الكتب والمجلدات ، بل وبما فيها من أموال عبث بها العابثون ... ونتيجة لذلك حُكم على صاحبها بتجريده من مصدر رزقه الوحيد في وقت كان يعول فيه عشرة من البنين والبنات .. وللقاريء أن يتصور الوضع الذي أكره أن أخوض في تفاصيله الشخصية والخاصة ، مكتفية بالتركيزعلى صورة المحنة من جانبها الإنساني ، إذ بأ ي حق يغتال الظالمون حلم وطموح ورسالة إنسان هدفه نشر الكتاب وخدمة العلم وطلابه ، ليجد نفسه وهو في الرابعة والخمسين من عمره - أي في عز قوته وقدرته على العطاء - ممحتناً بهذا الجور ، ومبتلىً بهذا الإجحاف..؟
لقد تفاءل أبناء الشيخ محمد بريون بما أشيع من قرار إعادة الأملاك المصادرة أو تعويض أصحابها ، فاستشاروا بعض المحامين في رفع قضية تعويض عما لحق بالوالد أولاً وبجميع أفراد الأسرة ثانياً من مصادرة المكتبة ، مصدر رزقهم الوحيد .. ولكن هؤلاء المحامين ثبطوهم ونصحوهم بعدم تصديق ذلك القرار ، إذ المقصود منه التنفيس المؤقت عن المظلومين والغاضبين ، وأن التعويض في مثل حالتهم يحتاج إلى تدخل مباشر من أعلى جهة في البلاد ، وهو مالايمكن أن يسعى إليه أحد من الأسرة التي تأنف من أن تتسوّل حقها إن لم يكن هناك طريق قانوني واضح إليه!

وإني وإن كنت أعترف بما لهذا المقال من أثر علاجي لي شخصياً ، فإنني لا أقصد منه هنا عرض مشكلة خاصة في إطارها الشخصي فحسب ؛ لسبب بسيط هو أنني لا أتوقع أن يحرك كلامي ضمير الظالمين ليكفروا عما صدر منهم ، ولكنني إلى جانب ذلك أحب أن أشير إلى القضية في إطارها العام ومعناها الموضوعي .. فهذه عينة صغيرة لما حلّ بمؤسساتنا الثقافية ومشاريعنا العلمية وطموحاتنا الصغيرة المشروعة من محاربة وتدمير ، أو تزييف وتدجين .. وهو نموذج لما لاقاه الشرفاء الذين لم يلتفتوا إلى الشعارات البراقة ، ولا إلى الطفرات المؤقتة ، وإنما جعلوا هدفهم خدمة العلم ، والإجتهاد في توعية البشر وإعداد الأجيال على أسس ثابتة لا تؤثر فيها العهود الزائلة ولا الشخصيات الفانية ..


مكتبة النجاح حلقة في سلسلة تجفيف منابع الثقافة وتدجين عناصرها أو القضاء عليهم .. ولذلك فأين هي صحف البلاغ والشعب والرائد والميدان والحقيقة؟ أين هي جمعية الفكر؟ أين هي آلاف الكتب القيمة والمجلدات النفيسة والمخطوطات النادرة التي كانت تزخر بها مكتبة الجغبوب والجامعة الإسلامية ؟ هذه سجلات سنفتحها في المستقبل ، مؤكدين على أننا لن نسكت عن الكشف عن الحقائق، والمطالبة بالحرية ، وعودة القوانين ، وإنشاء المؤسسات ، وإطلاق الثقافة والفكرمن الأسر، وفضح الغوغاء والتنابلة والمتسلقين على جثة الوطن ..
ولنا عودة ... والله من وراء القصد.

د. فوزية محمد بريون سبق نشره بموقع ليبيا وطننا عام 2008

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق