الثلاثاء، 21 مارس 2017

إيلاينى..كتاب يروى مأساة أم خلال الحرب الأهلية اليونانية ..



  يتناول هذا الكتاب قصة حقيقية حدثت أثناء ومابعد الحرب العالمية الثانية ،لأم يونانية ضحت بحياتها لانقاذ اطفالها من عبثية الحرب ، حيث يروى لنا "نيكولاس غاتزويانيس" مراسل النيويورك تايمزِ مأساة أمه "إيلاينى" . ففى أثناء الحرب الأهلية اليونانية مابين( 1946 - 1949 ) بين الجيش الحكومي اليوناني (المدعوم من الولايات المتحدة الامريكية و بريطانيا) وجيش اليونان الديمقراطي الجناح العسكري للحزب الشيوعي اليوناني (المدعوم من بلغاريا ويوغوسلافيا وألبانيا) التى اشتعلت بين الطرفين نتيجة لصراع الاستقطاب بين اليساريين واليمينيين الذي بدأ في عام 1943 ذلك بعد حصول فراغ فى السلطة نتيجة لدحر الاحتلال الألماني الإيطالي خلال الحرب العالمية الثانية عن الاراضى اليونانية .

اعُتقلت "إيلانى غاتزويانيس" فى العام 1948 بعد أن نجحت فى تهريب أطفالها الخمسة من قبضة المقاتلين اليونانيين من الشيوعيين ممن سيطروا على النواحى التى تقع فيها قرية "ليا" الجبلية التى تنتمى إليها إيلانى واسرتها ، وكانت تهمة إيلانى تهريب أبنائها فحُكم عليها بالاعدام بعد أن تعرضت لابشع أساليب التعذيب المعروفة أنذاك ، ثم أُطلق عليها النار أمام أهل قريتها بهدف بث الرعب والذعر فى قلوبهم لكى لايحذون حذوها فى عدم ارسال أطفالهم لمعسكرات الشيوعيين فى دول الستار الحديدى أى يوغسلافيا و بلغاريا بهدف تدريبهم وإعدادهم عقائديا يدينون بمبادىء الشيوعية .
تقول احد القرويات عن أخر لحظات الام "إيلانى" أنها  سمعت صوت صرخة تجمدت أوصالها لهولها وكانت (ياأولادى) آخر كلمات "إيلانى" .

لقد حاول "نيكولا" من خلال كتابه استعادة سيرة والدته ومأساتها من خلال القيام برحلة الى موطنه الأم بقرية "ليا" الجبلية باحثا عن الحقيقة وكيف قضت والدته الايام  والساعات الاخيرة ، وعن البحث على القاتل للقصاص منه.

  في عمر التاسعة إنضم "نيكولاس غايج" لآبيه "خريستوس اليونانى " المقيم فى ماساشوستس حيث يعمل فى التجارة ، و عاش نيكولا لسنوات طويلة تلاحقه ذكرى والدته وعذاباتها ومصيرها ، فقرر العودة للمرة الأولى الى اليونان فى زيارة فى العام 1963 ، ثم عاد ليحضر مأتم جدته "ميغالى" ، ليقرر بعدها فى العام 1977 أن يظل فى اثينا كمراسل لصحيفة (النيويورك تايمز) ، فى تلك الفترة قصد قريته "ليا" بضع مرات فوجدها قد تحولت الى أطلال بعد هجرة معظم سكانها منها ، وبقاء بضع مئات من المتقدمين فى السن ، فقرر "نيكولا" تحت دوافع عاطفية تعتمل فى إعماقه بوضع برامج لإعادة إحياء القرية من خلال تأسيس جمعية تقدم تبرعات سخية للقرية بهدف اقام مشاريع تجارية تساهم فى عودة شباب القرية للبقاء والعمل فيها بعد هجرتهم للمدن الكبيرة .

يقول نيكولا عن ذلك :" كنت أحاول على نحو غير واعى ، إقامة نصب لأمى لايستطيع أحد هدمها ، فالمشاريع التى سعيت إلى تحقيقها هى خير شاهد على حياة أمى وتعنيف لأولئك الذين خانوها فأخفقوا فى القضاء على إيلانى غاتزويانيس واولادها".

كانت لدى "نيكولا"  رغبة كبيرة فى معرفة مصير قتلة والدته ، وتجددت تلك الرغبة بعد معرفته ان احد المجرمين مات من غير أن تتاح له فرصة تعقبه ، و القاضى المتورط فى قضية والدته المدعو "كاتيس" لايزال على قيد الحياة ، وتزامن ذلك مع الترخيص للحزب الشيوعى فى اليوان عام 1974 ورفع الحظر عن جميع الجرائم التى ارتكبها مقاتليه فى سنوات الحرب الاهلية ، وعودتهم الى اليونان ليروو أخبار الحرب كما يشاؤون جاعلين من قادة الحركة الشيوعية أبطالا شعبيين ، فقرر التفرغ لقضيته الشخصية فقدم استقالته ، ثم حصل على مسدس هربه مع مقتنياته الشخصية التى أدخلها لليونان . 

ويقول نيكولا :" كلما سألت أحد من الطلاب المتحمسون للحزب الشيوعى عن حملة جمع الأطفال وفصلهم عن أسرهم ، وحملات إعدام المدنيين والفظاعات الأخرى التى ارتكبها المقاتلين الشيوعيين خلال الحرب ، كان يهز رأسه ساخرا ً من جهلى ثم يشرح بثقة أن تلك الأمور لم تحصل ابدا".

فقد سعى مقاتلى جيش اليونان الديمقراطى من خلال حملات منظمة ، محو ذكرى الافعال الشنيعة من ضمائر اليونانيين ، ولهذا عمل "نيكولا" على تدوين تلك السيرة ليس من أجله ومن أجل ذكرى والدته وباقى افراد اسرته ، إنما لتنوير الجيل اليونانى الذى تلا الحرب والذى لم تتسنى له معرفة كافة ملابساتها .

فأسفرت مساعى "نيكولا" عن التحقيق مع 400 شخص ، بينهم القرويين و الجنود الذين حاربوا مع الطرفين فى فترة الحرب الأهلية ، حيث أخذته التحريات فى طول اليونان وعرضها ، فضلا عن بريطانيا وكندا وبولونيا و المجر و تشيكوسلوفاكيا حيث تجمع لديه قطع المكونة لقصة والدته تتجمع قطعة قطعة .

يقول نيكولا عن لحظة انجازه لكتابه :"لقد عرفت أمى كما كانت حقا ً، بعيدا ً عن ذكريات الطفولية المحدودة ، فهى كانت امرأة ريفية عادية مليئة بالشكوك والمخاوف والمعتقدات التى غرستها فيها تربيتها ، ولكن ما إن رأت خطر الابادة يحيق بعائلتها حتى تكشف لها فى إعماق ذاتها رؤية واضحة لما تريد وقوة كافية لتحقيقه ".

بعد حصول "نيكولا" على كافة تفاصيل ماجرى فى تلك السنوات وماتأثيرها على حياة اسرته ، قرر البحث عن القاضى الثورى الذى حكم بالاعدام على والدته بتهمة رفض ارسال ابنائها لمعسكرات الشيوعيين ليتحولوا لمقاتلين فى صفوف الشيوعيين، فعرف بأن "كاتيس" موجود فى بلدة "كونيتسا" فسافر اليه حيث استطاع الوصول لعنوان بيته ،وقام بزيارته بصفته صحفى يحاول الحصول على معلومات حول ممارسات الجيش الديمقراطى الشعبى ، وماقام به هو شخصيا من محاكمات واعدامات لمدنيين ، وينكر "كاتيس" مشاركته فى تلك الجرائم ضد مدنيين ولكن نيكولا يواجهه بكل مايملك من معلومات فيطرده "كاتيس" من بيته ، فى اللحظة التى تسمع زوجته وابنته الشابة عما اقترفه من جرائم من "نيكولا" الذى اصُيب بهستيريا فأخذ يصرخ بصوت مرتفع فاضحا ً "كاتيس" أمام اسرته ، يقرر "نيكولا" عدم الاكتفاء بذلك ، إنما يرى ضرورة القصاص من قاتل وادلته عبر تنفيذ حكم بالموت عليه باطلاق النار من المسدس الذى يحمله ، فيتحين الفرصة عندما يجد "كاتيس" وحيدا فى بيته الصيفى فيدخل شاهرا ً مسدسه المحشو ويصوب على رأس قاتل امه ثم يقرر التراجع فى أخر لحظة ، ويقول نيكولا حول سبب تراجعه :" أعرف أن الخوف اوقفنى عن ذلك ،  خوف الانسلاخ عن اولادى ، وفتح مسلسل الثأر جيلا بعد جيل ، ولكن دافعا ً أخر وهو فهم حقيقة أمى التى اكتسبته من امتحانى لحياتها ، أجل ففى كشفى عن جوانب تلك الحياة عرفت شيئا ً من كلماتها الأخيرة وهى على عتبة الموت ، فعندما أدخلت انجليكى بوتساريس لمواجهتها فى اليوم السابق لاعدامها ، لم تتكلم امى عن آلامها وعذابها ، بل قصرت الكلام على شوقها إلى معانقة أولادها مرة أخيرة ، وقد وجدت الجرأة لمواجهة الموت لأنها أدت واجبها تجاه من أحبت".

يقدم لنا الكتاب إلى جانب حكاية الأم إيلانى، عرض لتاريخ الحرب الأهلية  من وجهة نظر انسانية تتضمن تأثيرات مثل هذه الصراعات المدمرة على نسيج المجتمعات ، وعلى أرواح الناس، ويسرد لنا "نيكولا" الكثير من المعلومات حول العادات والتقاليد وافكار المجتمع اليونانى ، والممارسات والعقائد الدينية ، وأدوار النساء فى المجتمع اليونانى .
قراءة هذا الكتاب بصفحاته 480 أشبه  بمعايشة تجربة مؤثرة ، ومؤلمة فى الوقت ذاته فالكاتب يستخدم أسلوب جميل وسلس فى سرد تفاصيل الحكاية ، رابطاً التاريخ السياسى لليونان بالتاريخ الشخصى لأسرته وقريته الصغيرة ، وتأثير الحرب والصراعات السياسية  على حياة الناس البسطاء ، وماتصيب ارواحهم من تشوهات نفسية ، ومايتركه تعميق الخلافات والصراعات بآثار لن تمحى بسهولة من الذاكرة وكيف يتحولون الى اعداء رغم انتمائهم لوطن واحد .

الأم إيلانى و بناتها الاربع وابنها الوحيد نيكولا مع الجدة
بيت أسرة غاتزويانيس بقرية إليا اليونانية   









الجبال المحيطة بقرية إليا فى شمال اليونان

حديقة بيت إيلانى فى قريتها

هناك تعليقان (2):