عندما فشلت حملة أندريا داوريا على جزيرة جربة بسبب مهارة درغوت الذي استطاع أن يجعل من الجزيرة قاعدة للقرصنة خلال عام 1551م، أصبح درغوت يهدد طرابلس التي كانت تعتبر واحة مسيحية في الصحراء البربرية الإسلامية كما كان يطلق عليها، حيث تحيط بها الولايات الإسلامية من جميع الجهات، مما جعل جحافل العرب تقوم بشن هجمات متتالية ضد المدينة حتى كانت تصل في أحيان كثيرة إلى أسوار المدينة، وكان درغوت يرغب في الحصول على مدينة طرابلس الغنية وذلك بتخليصها من أيدي المسيحيين، مما أدي به إلى القيام بعدة محاولات من أجل تحقيق أمنيته خاصة بعد وفاة سيده بارباروسا الذي كان يشترك معه في شن غارات شرسة على الشواطئ الإيطالية والتخلص دائماً بأعجوبة من المصائد التي كانت تعدها له البحرية الإسبانية والصقلية والنابوليتانية بالإضافة إلى الزوارق البحرية التابعة لجنوة التي كانت تخطط للهجوم على طرابلس بواسطة الدعم المادي الذي قدمته إسبانيا لتلك الدويلات من أجل الاستيلاء على طرابلس। ولكن بالرغم من كل ذلك لم تستطع تلك الدول المتحالفة وضع حدٍ لغارات درغوت المتتالية على الشواطئ الإيطالية.
لما كانت تلك الغارات تخدم سيده سلطان القسطنطنية قامت القوات التريكة بقيادة سنان باشا عام 1551م بالاستيلاء على طرابلس، وقد حاول الأسطول التركي بقيادة سنان باشا ومساعدة درغوت احتلال مالطا إذ تمت محاصرتها بجميع سفن الأسطول التركي الهائل ولكن لم يتمكنوا من احتلالها، بالرغم من أن القوات البحرية التابعة للدول المسيحية الأخرى لم تكن تمثل أية عقبة في وجه الأسطول التركي الذي غادر مالطا بعد فشله إلى طرابلس، وليس هناك مجال للكلام عن مسئولية المرشد الأكبر يوحنا الأوميدي الإسباني اللسان الذي تقاعس ولم يقم إلا بإرسال تعزيزات لا تكفي للدفاع عن القلعة، فبالنسبة لنا تكفي الإشارة إلى أن الأوميدي قد قام بإرسال نجدة تتكون من بضعة جنود من المشاة كان معظمهم من الكلابريزي والصقليين إلى غاسبارد دي فالييري حاكم طرابلس لمساعدته في الدفاع عن المدينة. كما لا يجب هنا أن نورد تصرفات الفرنسي جابرئيل دارامون سفير ملك فرنسا لدى حليفه السلطان العثماني، الذي توسل إلى سنان باشا محاولاً إقناعه بالامتناع عن احتلال طرابلس، كذلك لأنه ربما كان يسعى لحماية جنود الخيالة الفرنسيين في طرابلس، كذلك إلى تقديم المساعدات الممكنة لعمليات حصار المدينة التي كان يقودها سنان باشا ودرغوت.
وأخيراً فليس الغرض من الإشارة إلى ادعاءات نيكولاي أحد شهود العيان حول سقوط مدينة طرابلس، هو مناقشة تلك الافتراءات التي قد ترجع إلى خيانة أحد الجنود الفرنسيين، التي أدت إلى تجمهر الجنود الصقليين والكلابريزي مطالبين معاً بصوت واحد بضرورة التسليم مهددين حاكم المدينة بالهروب إلى صقلية، إذا لم يستجيب لرغبتهم. ولكن الإصرار على ذلك في الواقع لا يجدي شيئاً لأنه بالرغم من انتشار خبر هجوم الأتراك على طرابلس إلا أن سفن الأسطول الإسباني بالإضافة إلى السفن الحربية التابعة لمملكاته الإيطالية وجنوة لم تسارع إلى الدفاع عنها ضد الأسطول التركي بقيادة سنان باشا الذي استطاع الاستيلاء على المدينة في بضعة أيام من حصارها.
إن تقاعس البحرية المسيحية عن الاشتراك مع الفرسان في الدفاع عن المدينة وسقوطها في أيدي الأتراك يدل بدون شك على انهيار القوى البحرية المسيحية لتلك الدويلات وضعفها، كما أن سقوط طرابلس في أيدي العثمانيين كان نتيجة للأساليب السياسية السيئة التي كان يتبعها الملك شارل الخامس حليف الأتراك، بالإضافة إلى أن ذلك قد حدث بسبب حملة أندريا داوريا على مدينة بريفيسا.
وتدل مجزرة الجنود العرب الذين شاركوا في الدفاع عن المدينة بالانضمام إلى حامية فرسان القديس بواسطة الأتراك الذين قاموا بأسر جميع الجنود الإيطاليين أيضاً واعتبارهم رقيقاً، على سوء نية الأتراك الذين لم يتصرفوا وفقاً لشروط الاستسلام، بالرغم من أن تيكولاي شاهد العيان يعزو جميع تلك التصرفات السيئة التي قام بها الأتراك إلى درغوت.
وقد أسند سنان باشا قائد الأسطول التركي حكم الولاية عام 1551م إلى القرصان مراد آغا الذي كان قد شارك في حصار الأتراك لمدينة طرابلس بعد أن ترك له حامية صغيرة للدفاع عن المدينة. وقد حاول فرسان القديس إعادة الاستيلاء على طرابلس عام 1552م وقد كان قد تم استدعاء البطل الشهير ليون ستروتزي الذي كانه يعرف باسم أسقف كابوا – وسبق له أن قام باسم فرانشيسكو الأول بقيادة القوات الفرنسية المتحالفة مع الأتراك ضد الإسبان- بقيادة الحملة التي كانت تضم جنوداً إيطاليين وفرنسيين بالإضافة إلى جنود الخيالة لفرسان القديس والإيطاليين التابعين لقيادة دي فاليتا الذي أصبح المرشد الأكبر للفرسان فيما بعد، كما شارك شيبيون ستروتزي حفيد الأمير ألاي ليون بقيادة فرقة المتطوعين الإيطاليين مع فرق جنود المدفعية المرتزقة، وسارت تلك الحملة حتى نزلت بالقرب من مدينة زوارة حيث تمكنت من احتلالها بسهولة وعندما كانت الحملة بقيادة ليون تستعد للاتجاه نحو طرابلس اعترضتها قوات الجيش التركي بقيادة مراد آغا، فاضطرت القوات المسيحية للانسحاب بعد أن تعرضت لخسائر فادحة في الأرواح إذ أصيب ليون ستروتزي قاد الحملة بجروح خطيرة، ولم يتمكن الجنود الإيطاليين والفرسان من العودة إلى سفنهم إلا بعد أن تعرضوا لطعنات سيوف الأتراك الحادة، ولقد كان فرسان الخيالة الإيطاليون في طليعة المنسحبين. وفي نفس العام قام درغوت بشن غارات قرصنة شرسة على سواحل كالابريا حيث حمل معه إلى طرابلس عدداً من الرقيق المسيحيين ليصبح بعد ذلك والياً على المدينة "طرابلس" حيث تعهد بدفع أتاوة سنوية مع المساهمة بتقديم السفن والألحة في الحملات العسكرية التركية ضد المسيحيين بواسطة السلطان العثماني. وقد تسببت غارات القرصنة التي كان يقوم بها درغوت سنوياً لحسابه أو بالاشتراك أحياناً مع القوات التركية في إلحاق أضرار وخسائر لا تحصى بالشواطئ الإيطالية والسفن التجارية التابعة لكل من جنوة والبندقية ونابولي التي كانت تتعرض للسلب والنهب بالإضافة إلى نهب رجيو وسورينتو، كما قام درغوت بأسر أحد القوادس الصقلية، وترك القبطان وبحارته في قارب صغير تتقاذفهم أمواج وتيارات البحر المتوسط، كما استطاع درغوت بمهارته مباغتة أندريا داوريا، كما قام بمطاردة عنيفة وبدون شفقة للسفن القوادس التابعة لفرسان مالطا، مما أدى إلى ازدحام مدينة طرابلس بالرقيق المسيحيين وكان أغلبهم من الإيطاليين.
وقد ضاقت السجون المنتشرة في طرابلس بالرقيق المسيحيين بالرغم من إهداء الشباب من الجنسين إلى القسطنطينية حيث يتم بعد ذلك بيع الباقي منهم في أسواق النخاسة إلى عامة الناس، كما يتم إطلاق سراح بعضهم مقابل مبالغ مالية تتفاوت أحياناً بحسب مركز الفرد المراد الإفراج عنه، وفي سنة 1553م أصبحت القوات البحرية التركية تتكون من 18 سفينة حربية من نوع قادس وغليون، ثم زودت فيما بعد بضعف ذلك العدد بسفن الزوارق السريعة التي كانت قد أثبتت مدى قوة البحرية الطرابلسية، وكان قائد الأسطول يقوم باختيار طاقم بحارته من المناطق المتاخمة لغريان مثل ترهونة وبني وليد ومن بين سكان جربة التي كانت قد انضمت إلى الأتراك بالقوة خلال عام 1558م، وبموجب التحالف الذي تم ما بين أنريكو الثاني ملك فرنسا والسلطان التركي، تمت السيطرة المطلقة للمسلمين في البحر المتوسط، مما سمح لدرغوت القيام بشن غارات قرصنة على شواطئ البحر المتوسط، دون التعرض لمواجهة من قبل الدويلات المسيحية رداً على اعتداءاته التي كان غالباًمايقوم فيها بإنزال بحارته على تلك الشواطئ، حيث يقومون بالتدمير والتخريب وإشعال الحرائق لإتلاف الأراضي المزروعة، وقد استمرت غارات القرصنة الشرسة ضد المدن المسيحية البحرية حتى بعد عودة الأسطول التركي إلى الشرق.
وقد أصبحت البحرية الطرابلسية في عهد درغوت تثير الرعب حقاًفي نفوس البحارة المسيحيين الذين لا يجرأون على الخروج إلى البحر حتى ولو كانوا في أسطول بحري ضخم، إلا إذا كانوا متأكدين أنهم لن يواجهوا سفن درغوت في البحر.
ومن حسن حظ المسيحيين، أن خلافاً نشب بين الحليفتين فرنسا وتركيا فاستطاع أندريا دورايا استغلاله لصالح الدويلات المسيحية، بالإضافة إلى التحقير الذي لحق الفرنسيين العسكريين بسبب خضوعهم لقيادة القرصان درغوت إذ دفعوا بسمعتهم الطيبة بدون مقابل كما توقع الملك أنريكو الثاني، أما الامبراطور شارل الخامس فيبدو أنه حاول في نهاية حكمه أن يرشو درغوت لاستمالته إلى جانبه، فقدم له في إفريقيا ملكاً واسعاً أكبر من طرابلس كما فعل من قبل مع بارباروسا خلال العام التي حدثت فيه نكبة بريفيسا المشئومة.
كاميللو مانغرني ، العلاقات البحرية بين ليبيا وإيطاليا تاريخ البحرية الليبية (ترجمة وتقديم ابراهيم محمد المهدوي، بنغازي، منشورات جامعة قاريونس، ط1، 1992، ص 78- 82.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق