الثلاثاء، 20 أغسطس 2013

ظلال الارواح..


 
العالم الذي كان عالمنا لم يعد كذلك بعد الآن ..
(الشاعر الانجليزى لورنس بينيون )

كل شىء يتغير من حولنا، ونحن نكافح الا يطالنا التغيير على الاقل ، إلا يطال ارواحنا ويحولنا الى نسخ مشوهة علقت صديقتى رشا بعد طول صمت ونحن نتمشى ذهابا وايابا على طول الرصيف العريض الملاصق لشاطىء البحر بمنطقة الشابى بمدينة بنغازى نـتأمل ماطرأ من تغييرات على المكان بعد فبراير إذ يقابلنا من الناحية الثانية للطريق مبنى المحكمة وساحة الحرية التى انطلقت منها اولى المظاهرات الداعية لاسقاط النظام ، حاولنا الاقتراب من حافة الكورنيش لاستنشاق هواء البحر و الاستمتاع بمنظر الامواج الصغيرة وهى تتكسر على الصخور البارزة من بين المياه حيث يقف بعض هواة الصيد ، وبعض الزوارق تتأرجح على سطح الماء .

ظلت عبارة رشا تدور فى ذهنى لبقية الوقت من نزهتنا تمتزج مع موسيقى ( كونشيرتو التشيللو للبريطانى إدوارد إلغار من مقام مى مينور رقم  85)  تنساب فى ذاكرتى فى تلك اللحظات لتعكس ماكنت احاول التعبير عنه لشهور طويلة بعد نهاية حرب التحرر من قبضة القذافى وعصابته ، إذ كنت اشعر بالكثير من العجز عن التعبير عما يعتمل بأعماقى من مشاعر وافكار واحاسيس تضطرب وتصطخب كأحد قوارب الصيادين فى يوم عاصف ، لم انجح فى فهم مااعترى روحى إلا بعد زيارتى الاخيرة لبيروت حيث التقيت بصديقات رائعات احدهن طبيبة نفسية ساعدتنى على فهم مااصابنى أنها آثار الحرب وتقلبات المراحل الانتقالية ياعزيزتى ، كنت اصغى لشروحات صديقتى لينا سليمان وهى اللبنانية التى عاصرت الحرب الاهلية وآثارها السلبية على ابناء جيلها فهى من مواليد عقد الستينات وعايشت مرحلة الحرب بكل تقلباتها.كنت لشهور اعانى من مشاكل فى النوم بعمق او قضاء ليالى طويلة فى حالة أرق يجعلنى منهكة جسديا عاجزة عن انجاز اعمالى فى لاسابيع متتالية ، بالاضافة لشعور بالحزن العميق ، و الشعور بالتوتر الشديد فى اوقات كثيرة ، وعدم انتظام حياتى كما كانت قبل فبراير ، فخسائرالارواح فى الحرب والمشاكل التى ترتبت على اسلوب القذافى فى قمع الثورة عبر استعداء الاخوة وابناء العموم ضد بعضهم البعض ، وتركة عقود اربعة من القتل والاعتقال والاعدامات العلانية و الاخفاء القسرى والافقار المادى والافساد الاخلاقى ومحاولات تمزيق النسيج الاجتماعى لليبيين كلها أصبحت ازمات ومشاكل نعيش آثارها ونتائجها يوم بيوم مابعد فبراير .

بعد نهاية الحرب واعلان التحرير فى اكتوبر2011 لم اكن افعل الكثير إذ كنت اجلس واطيل النظر الى السماء من نافذة غرفتى واستمع الى هذه الموسيقى مرارا وتكرارا حتى اصبحت متغلغلة فى خلايا عقلى وذاكرتى ، موسيقى كونشيرتو التشيللو للبريطانى إدوارد إلغار من مقام مى مينور رقم 85.

ربما ماجعلنى افضل هذه المقطوعة فى تلك الفترة مايحمله من معانى قريبة لما كنت امر به وقتها، إذ يعتبر هذا العمل ضمن سلسلة من الآعمال الفنية المتميزة  للمؤلف الإنجليزي سير إدوارد إلغار التي أنتجها خلال الحرب العالمية الأولى وبعد انتهائها ، والذي أصبح أحد أهم الأعمال الموسيقية لآلة التشيلو، ولتأليف هذا الكونشيرتو ، قصة تعود إلى صيف العام 1918 حين كان إلغار يعيش في عزلة بيت ريفى بمقاطعة ساسكس وفي ذاكرته صوت مدفعية الحرب العالمية الأولى التي كان يسمعها خلال الأعوام الماضية ، وخضع إلغار بعد ذلك لعملية جراحية في لندن كانت تعتبر بالغة الخطورة لرجل في الحادية والستين من عمره. وبعد استعادة وعيه بعد عملية التخدير، طلب من زوجته قلماً وورقة كتب عليها اللحن الأول الذي أصبح فيما بعد اللحن المحوري الأول للكونشيرتو، ويعتبر النقاد هذه المقطوعة تمثل مشاعر اليأس وخيبة الأمل بالنسبة لإلغار الذي كان يشعر بها بعد نهاية الحرب، فضلا عن كونها نظرة من أعماق إلغار إلى الموت والخلود ،  فيها الكثير من الغضب والحزن والألم، لأن المؤّلف تأثر بالأموات والخراب الذي جاءت به الحرب الاولى.

يتألف هذا العمل الفني من أربع حركات : إفتتاحية جليلة ومؤثرة جداً تتبعها مرحلة أولى من الغزف بالقيثارة تستند إلى وتيرة منسجمة ومتماوجة تعكس مساحات الهضاب التي أحبها المؤلف هي هضاب مالفيرن حيث حيث نشأ، أو حتى منطقة ساوث داونز في ساسكس حيث أقام بين 1917 و1919. 

تليها المرحلة الثانية وهي عبارة عن حركات شديدة الحماسة يؤديها المؤلف. أما المرحلة الثالثة فتجسد فحوى العمل العاطفي وجو البريق المفقود. وفي المرحلة الرابعة عودة إلى المرحلة الأولى، لكن إعادة تجسيد رحلة النجومية تغذي نوعاً جديداً من العواطف عبر عالم الموسيقى الداخلي .

لم يلاقى الكونشيرتو الكثير من القبول من قبل النقاد الموسيقيين فى عرضه الاول فى نهاية العشرينات من القرن الماضى ، ليعود إلغار ليقدمه فى تسجيل على اسطوانات الجرمفون بتوقيع العازفة البريطانية الموهوبة بياتريس هاريسون فى العام 1928 حيث يسمح لها بتقديم بعض الاجزاء فى عزف منفرد ضمن الاوركسترا التى قادها ألغار بنفسه ، ليتعرض هذا الكونشيرتو لاهمال من قبل عروض الفرق الموسيقية وعازفى الموسيقى الكلاسيكية لوقت طويل لتساهم عازفة التشيللو البريطانية الراحلة جاكلين دى برى بمنحه شهرة كبيرة بعد قيامها بعزف الكونشيرتو فى عام 1965 بقيادة السير جون باربيولي ليصبح أحد التسجيلات الكلاسيكية التي حازت إعجاب الكثيرين وحققت نسبة مبيعات خيالية على مدى العقود الماضية. كما حُفظ أداء جاكلين في فيلم صوّره صديقها كريستوفر نوبن.

لتعود شركة التسجيل الموسيقى البريطانية فى العام 2007 لاصدار تسجيل جديد بتوقيع العازف البريطانية الشابة الموهوبة ناتالى كلاين لتبث الحياة من جديد فى العمل وفق لرؤية واسلوب ناتالى .

هناك 3 تعليقات:

  1. رائع أيتها المُذهلة ..شُكراً على هذه الرحلة .. أعدتُ قرأتها مراراً وتكراؤاً أنا استمع لمقطوعة السير إدوارد ،،بالنسبة لجاكلين دي بري شاهدتها فيلمها انسانة طموحة اقعدها مرض التصلب المتعدد في عمر 28 عن العزف و خطفها الموت في سن مبكرة

    ردحذف
  2. تأثرت كثيرا بتلك التدوينة مست جرحا مصريا.. بقدر ما كانت الأيام الأولى لثورة يناير ملهمة إلا أن ما اعقبها كان صادما ومحزنا.. ربما ما نعانيه الآن طبيعيا في مرحلة ما بعد الثورات خاصة وأن بلادنا بحاجة إلى تطهير شامل إن جاز التعبير من إرث عقود من القهر والظلم وتغييب الوعي..ولكن يبقى السؤال كيف نحمي أنفسنا وكل ما نحبه ونقدره في بلادنا من القبح المحيط؟

    ردحذف
  3. تأثرت كثيرا بتلك التدوينة مست جرحا مصريا.. بقدر ما كانت ثورة يناير ملهمة في أيامها الأولي بقدر ما أعقبها كان صادما ومحبطا.. ربما هي طبيعة مرحلة ما بعد الثورات خاصة وأن بلادنا تحمل إرثا ثقيلا من عقود القهر والظلم وتغييب الوعي.. ولكن يبقى السؤال كيف نحمي أنفسنا وكل ما نحبه ونقدره في بلادنا من القبح المحيط؟ تحياتي دوما

    ردحذف