الخميس، 14 نوفمبر 2013

عاشوراء .. يوم للشكر والفرح فى ليبيا

هناك عادات وتقاليد ليبية ذات طابع دينى وجد فيها الليبيين فى العقود الماضية قبل التحول الى الحياة الحديث نوع من الترفيه البرىء ويتقربون فيها إلى الله فى الوقت نفسه ، منها الاحتفال ب(يوم عاشوراء ) اى اليوم العاشر من شهر محرم من كل عام ، حيث يصوم الكبار ايام تسعة وعشرة من هذا الشهر فى مخالفة لعادة اليهود والمسيحيين ، حيث يأخذون بما ورد أحاديث كثيرة في فضل يوم عاشوراء، منها: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ماهذا؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، قال: فأنا أحق بموسى منكم. فصامه وأمر بصيامه" (رواه البخاري 1865 ) .

وكان الاطفال يخرجون فى مجموعات مع حلول ليلة التاسع من شهر محرم ، يطوفون على البيوت ويطرقون الأبواب ويرددون عبارات مسجوعة يستدرون بها الهدايا والنقود من ربات البيوت . 

اتخذ الناس فى ليبيا فى العقود الماضية من يوم عاشوراء من كل عام موعد لاداء الزكاة ، ربما لانها تتوافق مع بداية العام الهجرى الجديد حيث يقوم الزراع والرعاة والتجار بمراجعة حساباتهم و التدقيق فى حصاد عامهم من الخسائر والارباح وفقا للتقويم الهجرى ، وفى مدينة درنة يطُلق على يوم عاشوراء ومايؤدى فيه من طقوس (تعوشير) وربما جاءت الكلمة كما يفسرها الباحث التاريخى مصطفى الطرابلسى رحمه الله بأنها تدل على أخذ العشر أو نصف العشر بالنسبة لزكاة الحبوب ، أو أخذ ربع العشر ، بالنسبة لزكاة النقدين وعروض التجارة . 

كانت الاسر الليبية تحتفل بيومى التاسع والعاشر من محرم بالصيام ، ثم تناول وجبة طعام برفقة افراد العائلة ، كما يقمن ربات البيوت فى مدينة بنغازى بإعداد طبق من البقوليات المسلوقة (حمص وفول ) أما فى بيتنا فقد اعتدنا على تناول طبق السليقة وهى قمح وفول وحمص مسلوق يضاف إليه القديد وبعض البهارات كالملح والفلفل الاحمر والكمون الاسود ، بحسب عادة اهل درنة مسقط رأس والدتى ، في حين يقمن ربات البيوت الليبيات المنحدرات من نسل الاتراك و الكريتلية (اليونانيين) بإعداد طبق البليلة وهى لاتختلف عن السليقة الا فى مذاقها الحلو حيث يستبدل الملح والبهارات بالسكر واللوز والزبيب ويضاف الى الحمص والقمح المسلوق ويزين بجوز الهند ، ويتم تبادل تلك الاطباق بين الجيران والاقارب والمعارف فى الحى والمدينة الواحدة ، فتصبح فرصة للاولاد والبنات للحصول على الحلوى والنقود مقابل قيامهم باحضار تلك الاطباق فلم يكن من العادة اعادة أى صحن فارغ .

و يوم عاشوراء عادة لاتعمل ربات البيوت في أى اعمال منزلية مرهقة باستثناء إعداد وجبات الطعام واستقبال افراد العائلة والجيران لتبادل التهنئة حيث يصبح هذا بمثابة يوم عطلة لهن ،  فتكتحل النساء والشابات والفتيات الصغيرات بالكحل العربي ويخضبون أيديهن بالحناء ويقصصن جزء من شعرهن ، لاعتقادهن بأنهن سينلن حظ طيب بالحصول على زوج فى العام الجديد ، ولحرصهن على الظفر بشعر طويل ففى العقود الماضية قبل طغيان الحياة الحديثة  على المجتمع الليبى كان هناك حرص كبير للحصول على شعر طويل كعلامة جمال مميزة للشابات ، كما يحرص الجميع فى تلك السنوات القديمة على الاستحمام فور الاستيقاظ اعتقادا ً منهم بأن الماء مزمزم أى قادم من بئر زمزم . 




كما يهرعون صباح يوم عاشوراء الرجال والنساء برفقة أطفالهم للقيام بزيارات للمقابر التى احتوت رفات أحبائهم وأقربائهم محملين بالزهور والورود وأعراف الياسمين وأوراق شجر الموز الخضراء وسعف النخيل وأوآنى المياه وهناك يتحلقون حول قبورأحبائهم يتحادثون ويتسامرون مستعرضين سيرهم وتواريخهم يسردونها فى شوق وعبره لأبنائهم وأحفادهم المرافقين لهم ، وفى نهاية لقائهم بأحبائهم سكان  القبور يودعونهم  بكلمات مفعمة بالتدين والإيمان ( أنتم السابقون ونحن اللاحقون ) ويقرأ الجميع كل حسب مقدرته وثقافته آيات من القران الكريم ( أو يستأجرون أحد الشيوخ لكى يقرأ تلك الآيات من الذكر الحكيم)  ترحما وصدقه على أرواح أحبائهم وأقاربهم من ساكنى القبور ، ثم يضللون هذه القبور بعد ان ينظفونها من بقايا الأعشاب اليابسه والشوائب،  بالأغصان الخضراء وينثرون عليها الورود التى أحضروها معهم  ، كما يبللون ترابها وأعشابها برشات من قوارير المياه ويتركون بعد ذلك ما تبقى منها فى أوآنى على قمة تلك القبور رحمة لزوارها من الطيور والحشرات، كما يتصدقون بعد انتهاء الزياره بما توفر لهم من مال أو غذاء على الفقراء والأغراب المتواجدين عند مخارج المقبره .

تذكر والدتى بأن خالتى الكبيرة ياسمينة كانت تحرص فى كل عام من يوم عاشوراء على زيارة الجبانة الغربية بدرنة حيث ترقد والدتها واخيها فرحات الذى قُتل على يد الايطاليين فى أثناء الحرب العالمية الثانية ، مصطحبة ابنائها وزوجها وخالاتى الصغيرات حاملين اغصان النخيل و الياسمين لوضعه على قبور الاحباء الراحلين .




وكان الاولاد والبنات يرددون اغانى واهازيج خاصة بيوم عاشوراء اختلفت من مدينة لأخرى، ففى بنغازى ومدن برقة بشكل عام و،كان جمل عاشورة أهم مايلفت النظر فى الاحتفالات بعاشوراء فكان كل حى يعد الجمل الذى هو عبارة عن قفص خشبى مذبذب الرأس يغطى بالقماش وتربط به خشبة طويلة مغطية بالقماش أيضا تمثل رقبة الجمل وترشق على رأسها جمجمة جمل ، وكان أحد الشبان يدخل وسط القفص فيحمله ويبدو كما لو أنه جمل وتطوف الجمال بالشوارع ومن ورائها الصغر يهتفون جمل عاشوره أى والله ويرجح الدكتور وهبى البورى أن هذه العادة موروثة من العهد الفاطمى فى ليبيا، وكان الاطفال يسيرون وراء الجمل فى موكب ، حاملين صحونا ً مملوءة بالفول والحمص ، ويمرون على البيوت مرددين:يالله جمل عاشورة/ يالله يلعب بالكورة /يالله فى يوم عاشورة /الله يلعب بالمية / الله فى جنان حليمة ).

وما إن يقترب الأطفال من أحد المنازل حتى يطلبون العاشورة المكونة من الفول والحمص وهم يرددون:

عاشورة عاشورتى      تنفخ لى كورتى
تنفخها وتزيدها          سموا من هو سيدها
سيدها عبدالرحمن     كارس فى ذيل الدكان
        يأكل فى خوخ ورمان

ثم يتوقفون فى انتظار ماسيجود به أهل البيت من فول وحمص وهم يرفعون أصواتهم منشدين:

اللى ماتعطينى الفول     يصبح راجلها مهبول
اللى ماتعطينى الحمص    يصبح راجلها يتلمس

وعندما تعطيهم ربة البيت الفول والحمص وتجود عليهم من خير البيت، فإنهم يمدحونها ويمدحون كرمها قائلين:

هذا حوش البوبشير      فيه القمح والشعير
هذا حوش عمنا           يعطينا ويلمنا
هذا حوش سيدنا      يعطينا ويزيدنا

فإن لم تعطيهم ربة البيت شيئا ً ، وهذا نادر مايحدث إلا نفذ ماعندها من حمص وفول، فإنهم يقفون أمام الباب ويذمونها مرددين:

هذا حوش الوزنان    فيه القمل والسيبان
الرحى معلقة      والمراة مطلقة

وفى هذا البيت إشارة خفية إلى أن البيت الذى يخلو من امرأة كريمة صالحة هو شبيه بالبيت الذى فيه امرأة كسولة ، ولا توجد به أخت كبيرة تعتنى بالصغار، لذلك فكل الأطفال غير نظاف ، ويمتلىء شعرهم بالقمل وبيوضه ولا يطبخ فيه الطعام او يطحن فيه الدقيق ، والزوجة فيه ستتعرض حتما ً للطلاق لكسلها وعدم نظافتها أو عنايتها بالأطفال، وهى إشارة إلى ضرورة الاهتمام بالأسرة والبيت، ودعوة خفية لأداء الواجب.

وفى مدين درنة يحمل الأطفال صحون الفول والحمص ، ويدورون فى الشوراع وهم ينشدون(وارشة نملة ونميلة/وارشة جاك الغرنوق/وراشة ينقبلك عينك/وارشة عينك لافوق/وراشة عدا للسوق/وراشة شراء عبروق / وارشة من وسط السوق/وارشة عبروق فضية/وارشة بألفين ومية).

والغرنوق هو الطائر البحرى المعروف (ونقبك) اى نقرك بمنقاره ، ويرى الباحث التاريخى مصطفى الطرابلسى رحمه الله فى هذه الاهزوجة كنوع من التعبير الشعبى عما كان يصيب الناس من عسف الجباة فى العهود الماضية ، فالمعروف أن جباة الضرائب فى عهد العثمانى لم يدخروا وسيلة او فرصة لاجل استنزاف موارد الناس ، فكانوا يجمعون منهم النقود والأقوات وقد يصادرون منهم مايدخرونه من قوت أو نقود ولايستثنون الفقراء .

كما يردد الاطفال فى مدينة درنة عبارة مسجوعة (اللى ماتعطى العشورا ، تصبح برمتها مقعورا ) وهى تقليد ومحاكاة لما كان يجرى أمام اعين الاطفال من مساومات وتهديدات يطلقها جباة الاموال من موظفى الدولة آنذاك .

 أما فى مدينة طرابلس فإن الأطفال فى دورانهم على البيوت فيتولى قيادتهم  (الشيشبانى) وو احد شباب الحى يكون طويل القامة يتبرع للقيام بهذه المهمة مرتديا ملابس من الخيش ويلبس معها سلاسل واالقواقع البحرية وبعض التمور الخضراء والعقود المعدنية وقد يضع عمامة وقناعا من الألياف نفسها ، ويعلق العلب الفارغه في جسمه حتى تحدث صوتا يقرقع ويمسك في  يده عصا يرقص بها والأطفال يغنون له أغنية  الشيشباني : (شيشبانى يابانى/ هذا حال الشيشبانى/ هذا حاله وأحواله/ربى يقوى مزاله/ شيشبانى فوق جمل/ سقد يامولى المحل/شيشبانى فوق حصان/ سقد يامولى الدكان/شيشبانى فوق تناكة/سقد يامولى البراكة/عمى الحاج هات امية/ بيش انعنقر الطاقية/قيزة قيزة حق القاز/عسكرى والا منطاز)..

 
ويبدأ تهديد صاحبات البيوت (اللي ماتعطيش الفول/ يقعد راجلها مهبول )، اى من لاتعطينا الفول يصبح زوجها مهبولً اي مجنون ، محذرين صاحبة البيت إذا لم تعطي الفول فإن زوجها سيجن ويصير بهلول.
وعندما تهرع صاحبة البيت لجلب نصيبهم من الفول والحمص وتكون كريمة يغنون لها: (أمشت أتجيب / أعطيها الصحة )، وإذا تأخرت يغنون ساخرين (أمشت تجيب/ أكلاها الذيب ) ، اي ذهبت لتحضر الفول تاخرت اكلها الذئب ، وبعد أن تمتلئ السلال بالفول والحمص يكون الأطفال قد تعبوا من الدوران على البيوت فيغنون للشيشبانى ليرجعهم لبيوتهم قائلا ً: ( روح بينا / شيشباني ليل علينا) فيستلقى الشيشباني ويتظاهربالموت ويقول: (افويله افويله/ وإلا نموت الليلة ) فيقول له الأطفال (صلي صلاتك / الموت جاتك ) ثم يودعون الليلة بأغنية ( العادة دايمة وتدوم العادة /  ديرلها سلوم).
 
استوقفت شخصية الشيشبانى الكثير من الباحثين فى التراث الليبي كثيرا فحاولوا تفسير وجود هذه الشخصية الغريبة ضمن الموروث الشعبى الليبى ، باعتبارها جزء من تأثيرات افريقية اتت مع جماعات العبيد الذين عملوا فى بيوت ومزارع الطرابلسيين.
 
قد كانت شخصية الشيشباني - ولا تزال - شكلا من أشكال التسلية الشعبية الموسمية داخل المجتمع الليبي. حيث تصبح عاشوراء فرصة لنشر روح المرح والفرح بين سكان المدينة ، وزيادة تقوية روابط المحبة والخير بين أفراد المجتمع الليبى.

هذا المساء انتظرت أن يمر اطفال الحى مرددين اهازيجهم واغانيهم مطالبين بنصيبهم فى العاشورا ، لكن الانتظار طال ولم يطرق الباب أى ولد او بنت من اولاد الجيران ، باستثناء حفيد احد اقدم جيراننا جالبا فى يده طبق فول وحمص ، كنت انتظر أن اسمعه يردد عاشورا عاشورتى ، مع الاسف اكتشف مع مرور الاعوام اختفاء واندثار الكثير من العادات والتقاليد الجميلة ، وكم يحزننى الامر فهى عادات وتقاليد تحض وتحرص على اعلاء القيم السامية فى مجتمعنا.

اللوحات للفنان الليبى عوض عبيدة رحمه الله

هناك 5 تعليقات:

  1. رحلة ثرية في التراث الليبي يا إيناس أشكرك عليها.. كنا نحتفل في مصر ايضا بيوم عاشوراء ولكن احتفالات أهل ليبيا تبدو أكثر بهجة:) تتبادل عادة ربات البيوت أطباق البليلة التي نسميها عاشورا حيث نضيف إلى اللبن والقمح النشاء.. من المحزن أن تندثر تلك العادات التراثية الجميلة.

    ردحذف
  2. ايام حلوة فيها الود والرحمة ان شاء الله ترجعلنا من جديد...شكراعلى الرحلة الحلوة اللى عيشتنى فى ايام جدودنا

    ردحذف
  3. ايام حلوة فيها الخير والفرحة وراحة البال..رجعتينا لايام جدودناوعشنا ايامهم شويه..شكرا

    ردحذف
  4. تبادلنا أطباق السليقه والبليله هذا العام مع بعض الجيران والاصدقاء والاقارب,ولكن بطبيعة الحال كانت عاشوراء خجوله ان صح التعبير,وكما أنجي الله سيدنا موسي في مثل هذا اليوم,عساه ينجينا من العنف الذي حصد كل شيء جميل في ليبيا #عساها عاشوراء القادمه تكون اكثر سلامآ ومحبه

    ردحذف
  5. ايها المسلمون انه يوم استشهاد ابن بنت نبيكم الحسين بن فاطمة بنت محمد (ص) اين الفرح والسرور في ذلك !

    ردحذف