الأربعاء، 8 مارس 2017

يوم مات زهر الليمون ...



من ذا الى يعرف مايخبئه له الغد حق المعرفة ؟ فها أنت أيضا ً،
ياخارميس ، يامن كنا نراه بالأمس رؤية العين ، نواريه فى يومنا
التالى التراب ودموعنا تغرقنا .
فما قاسى والدك ديوفون حزنا ً يفوق هذا قسوة

"الإبجراما** السادسة عشر، كاليماخوس القورينى

يوم الاربعاء فى الصباح الباكر كنت فى الطريق لمدينة درنة الجبلية لحضور جنازة خالتى فاطمة التى رحلت منتصف الليل ، كنت طوال الطريق استرجع شريط الذكريات الجميلة والحزينة التى جمعتنى بها ، احاول تذكر احاديث عامنا الاخير عبر الهاتف ، كان يأتينى صوتها ضعيف ومهزوز مرتعش من الخوف والقلق على حياتها وعلى حياة زوجها وبناتها ، فقد كانت خالتى فاطمة رحمها الله مستشارة بمحكمة استئناف الجبل الأخضر بمدينة درنة ، امضت الاعوام الثلاث الماضية تترقب وتنتظر اغتيالها ، بعد تزايد الاغتيالات وتدهور الاوضاع الامنية بدرنة وباقى أرجاء ليبيا، لقد قتلها الحزن والخوف ، وهى تنتظرة دورها .

لقد كانت خالتى واحدة من السيدات المُلهمات فى حياتى لقوة شخصيتها وشجاعتها وروحها الخيرة ، كانت والدتى اطال الله فى عمرها تحدثنى عن طفولتها وعن ذكائها وتفوقها الدراسى و انخراطها فى انشطة لصالح مجتمع درنة ، ومدى اهتمامها بالقضايا العامة فى المحيط العربى ،فهى من الجيل الذى ولد وعاصر حكم عبدالناصر لمصر و علو المد القومى فى الخمسينات والستينات .

لقد كانت لخالتى رحمها الله عضوة نشيطة ضمن جمعية النهضة النسائية بدرنة ، حيث شاركت فى حملات محو الامية فى آخر الستينات والسبعينات ، وشاركت فى حملات جمع التبرعات للثورة الجزائرية و لقضية فلسطين ، كما كانت تقضى بعض الوقت فى تعليم الفتيات الفقيرات الخياطة والتفصيل ، فقد تعلمت ذلك على يد مدام ماريكا بمدرسة الزهير الثانوية .

درست خالتى بمدينة درنة حتى حصولها منتصف السبعنيات على الثانوية العامة بتقدير جيد جد ، لتقرر الالتحاق بكلية الحقوق بجامعة بنغازى فى العام 1975 لتتخرج بتفوق كبيرمن الكلية ، وتعيينها كمعيدة بنفس كليتها ، لكنها تعود الى مدينة درنة وفاء للاتزاماتها الاسرية وواجباتها ، اتذكر جيدا ما روته لى خالتى عبر احاديث وجلسات كثيرة عن تلك الفترة العصيبة من تاريخ كلية الحقوق و جامعة بنغازى وعن النظام الانقلابى وجسه لنبض الشباب تجاه الاجراءات الظالمة و القرارات الجائرة و التغيرات التى كان القذافى يسعى لاحداثها فى البلد والمجتمع الليبى فى تلك المرحلة ، وعن المؤامرات والتحركات للكثير من الشخصيات السياسية او الطلابية التى قادت للصدام المباشرة مع نظام الانقلاب ، كانت تروى مرة بعد مرة نلتقى فيها خلال الاعوام الماضية  ذكرياتها عن تلك الفترة بحسرة وغضب عن قمع مظاهرات الطلاب فى جامعة بنغازى ، عن مشاهد جديدة على الليبيين من اعتقالات واعدام  يقوم بتنفيذها ليبيين من أبناء البلد بحق مواطنيهم، عن اصدقائها وزملائها من الجنسين ممن اعُتقلوا او هربوا ، عن نجاتها من الاعتقال هى وصديقتها الاستاذة جازية بوخروبة لشجاعة  ومروءة الصيادين او عيال البحر بحسب وصفها .

بعد تلك المرحلة الصعبة التى نجح فيها نظام الانقلاب فى تحطيم الحركة الطلابية بالجامعة ببنغازى وطرابلس عادت خالتى لدرنة لتعمل كباحثة قانونية  لمدة عامين فى السجل العقارى ، ثم تتزوج فى بداية الثمانينات من ضابط بالبحرية ، تنقل معه الى مدينة طرابلس حيث تواصل عملها كقانونية فى مكتب النائب العام لمدة 3 اعوام ، ثم تغادر مع زوجها من جديد الى طبرق حيث المقرالجديد لعمل زوجها بالقاعدة البحرية هناك ، وفى طبرق تتحول للتدريس فى المعهد العالى لعلوم الادارة، اخبرتنى عن قرارها ذلك بأن التزامها بعملها السابق اصبح صعب مع وجود ثلاث طفلات صغيرات يحتجن لرعايتها ، ومخاوف زوجها من عملها بالمحاماة نظرا لما كانت تتمتع به طبرق المدينة القريبة من الحدود الليبية المصرية ، فى سنوات الثمانينات من سمعة غير جيدة لاعتبارها مقر لكثير من كبار المهربين ، لم تيأس خالتى وتستسلم للوضع الجديد ، فتقرر العودة للعمل كمحامية من جديد بعد ان دخلن بناتها للمدرسة ، ومع نجاحها فى اقناع زوجها بعدم وجود خطر حقيقى على حياتها ، او حياة بناتها ، لا زلت اذكر جيدا تلك الفترة من حياتها ، حينما كنت استمع لاحاديث ماما مع خالتى عبر الهاتف و عن تطمينات خالتى لها،واخبارها بأنها سعيدة ومرتاحة فى عملها وحياتها الجديدة بطبرق وبأنها أحبت الناس و اصبح لديها الكثير من الصداقات الجميلة مع جيرانها ومع سكان المدينة .

مرت سنوات قبل ان يصدر قرار جديد بنقل زوج خالتى للعمل فى مدينة درنة حيث يستقران بشكل نهائى مع بناتهم ، حيث يتم ترقية خالتى كقاضية بمحكمة درنة الابتدائية ، فى تلك الفترة لكما زارتنا او التقينا فى احدى المناسبات اتذكر وصايا ماما وجدتى لها بأن تبذل اقصى مافى جهدها لتؤدى عملها على احسن وجه .

كانت خالتى رحمها الله سيدة عطوفة و محبة للفعل الخير ، رافضة للسلبية او الانكفاء على نفسها والاكتفاء بالحياة اليومية التقليدية لليبيين ، فسعت مع سيدات اخريات من درنة لاعادة تأسيس جمعية النهضة النسائية رغم الصعوبات والعراقيل من بينها قانون منظمات المجتمع المدنى ايام نظام القذافى الذى يضيق على تلك المؤسسات والجمعيات حرية الحركة وضرورة بقائها تحت الرقابة الشديدة لاجهزة الامنية ، كانت الجمعية تزاول انشطة خيرية اجتماعية ، كنت سعيدة وانا اتابع ماتقوم به مع اخريات لصالح المدينة .

مع تفجر الاوضاع بمدينة درنة و اعلان تحررها من قبضة نظام القذافى ، كانت خالتى تشارك كغيرها من سكان المدينة فى الاعمال التطوعية و تقديم العدم لمقاتلى المدينة على جبهات القتال فى مابعد ، كانت تشارك فى الانشطة الثقافية و النقاشات المتعلقة بالجوانب السياسية ، لم تكن تشعر بالخوف ، كما اخبرتنى فى تلك لايام ، كانت تشعر بأن الايام الجميلة لدرنة ستعود ، لم يخطر ببال أى احد منا أن الحلم الجميل سينقلب كابوس ثقيل ، وبأن درنة التى عادت تتنفس وتدب فى شرايينها الحياة ستعود لتتنفس الموت والاغتيالات و الخوف ، مع تزايد حوادث الاغتيالات بنهاية العام 2012 وعلى طول العام 2013 كنت احبس انفاسى مترقبة خائفة يوم بعد آخر ان يأتينى خبر اغتيالها ، كلما تحدثنا عبر الهاتف او التقيتها خلال تلك الشهور الصعبة كنت اراقب ملامحها احاول ان اطمئنها بأنها لم تفعل شىء تستحق عليه القتل .

مع اقتراب العام 2012 من نهايتها تدخل ابنتها سمية بغيبوبة تستمر عام كامل نتيجة لهبوط فى السكرى و تردى الخدمات الصحية بالمدينة و خطأ التشخيص الاولى للحالة ، لتفارق الحياة قبل 3 اشهر ، كانت تلك الفاجعة تركت آثر عميق على روح خالتى القوية التى سرعان ما رقدت فى فراش المرض ، حيث ظهر اتضح من الفحوصات ظهور كيس بالكبد ، تم استئصاله بعملية ناجحة بالقاهرة .

مازالت اتذكر جيدا عودتها من القاهرة وهى فرحة مستبشرة بأنها تعافت من مرضها ، وستبذل جهدها لتحافظ على صحتها وبأنها لن تستسلم للاحزانها لانها أم ولديها رسالة لتؤديها تجاه باقى بناتها ، كانت توزع الشوكلاتة و الهدايا على اطفال العائلة ، جالبة السرور والبهجة ، لم انسى جلستها على مقعد مكتبى مقلبة فى عناوين كتبى الجديدة ، وبأنها ستستعير مجموعة منها بعد ان تتعافى كليا ...كم هو صعب و مؤلم عندما اتذكر حالتها النفسية المتدهورة بعد سماعها لخبر اغتيال زميلها وصديقها المستشار عبدالعزيز الحصادى ونجاة هلال بن فايد من محاولة ، كانت منهارة وماما وانا نحدثها عبر الهاتف ونحاول طمئنتها ، وونحاول حثها على مغادرة درنة الى مكان آخر آمن ، كانت تقول لا اريد مغادرة درنة لا يوجد مكان آخر لاذهب إليه ، كنت اسمع صوتها عبر الهاتف يأتينى مرتعش ، يحمل نبرات ضعف وخوف كبيرين لم اسمعها يوما فى صوت خالتى التى عانت ومرت بالكثير ، كانت متوجعة لحال درنة ، ولحال رجالها وشبابها.

خلال الايام الماضية كنت استرجع كل الذكريات والصور التى جمعتنى بخالتى رحمها الله ، فمازالت ذاكرتى كطفلة تحتفظ بالكثير من الذكريات و الاماكن الجميلة والمواقع الاثرية التى زرناها فى رحلة من الرحلات العائلية ، كانت تحب البحر والتخييم على شاطىء البحر ، و عندما دخلت الجامعة كانت احاديثنا ونقاشاتنا فى السياسة و التاريخ و الكتب و اشياء كثيرة لا تنتهى فى الجلسات و اللقاءات العائلية كنت اجد متعة كبيرة فى تلك الاوقات ، كانت تحب الزراعة وتقضى وقت طويل فى حديقة بيتها ، ومع اطلالة الربيع كنا ننتظر حصتنا من زهر الليمون المجفف فى برطمانات لاستعماله مع الشاهى او زجاجات ماء الزهر الذى تقوم بتقطيره حيث كانت كغيرها من الدراونة يستعملونه لاغراض مختلفة ...بعد بضع ايام سيحل الربيع وسيطول انتظارى لتلك السلة السنوية التى تصلنى منها ، ستذبل اشجار حديقتها .

 للقراءة حول طقوس الحزن على الطريقة الليبية عبر التاريخ ألقى نظرة هنا: إليجية الحزن برفقة هبينوس وتانتوس









هناك 4 تعليقات:

  1. رحمها الله يا إيناس وأدخلها فسيح جناته ومنحكم الصبر والسلوان على مصابكم..موجعة تلك التدوينة.. لقد انقطعت لفترة عن العالم والاخبار من شدة حزني وشعوري بالانهزام أمام كل ما يحدث في بلادنا..لأعود وأقرأ تدوينتك الحزينة تلك في رثاء خالتك ورثاء حال ليبيا أيضا..لندعو الله أن يكشف غمتنا وينير لنا الطريق..تحياتي وتقديري إليك دوما.

    ردحذف
  2. عميق مواساتي أخت إيناس، رحم الله فقيدتك و الهمك سلوانا بقدر ما كانت تدوينتك هذه سلوانا لمن قرأ. دام قلمك و تبارك سردك الفريد

    بريكا الورفلي

    ردحذف
  3. رحمها الله رحمة واسعة ويلهمكم الصبر

    اللهم اجعلها في الجنة مع الصالحين والصالحات

    ردحذف