الثلاثاء، 13 يناير 2015

زد ... مازال حيا ً..



لم تكن مشاهدة الافلام السينمائية فى حياتى لمجرد المتعة والتسلية فقط ، إذ اعُتبرت من بين وسائل عديدة للتثقيف والتعليم ، ولهذا كان والدى رحمه الله يحرص على تزويدنا بأفلام تحمل قيمة فنية وفكرية وتعالج قضايا انسانية ، لتشغيلها على آلة السينما المنزلية ،  وكان فيلم (زد) من بين تلك الافلام التى سبق لى مشاهدتها فى سنوات المراهقة ، مرت أعوام طويلة قبل أن تتاح لى فرصة الحصول على نسخة جديدة على سى دى  بنقاوة ووضوح فى الصوت والصورة كهدية من صديقة عزيزة ورائعة، خلال هذا العام شاهدت الفيلم أكثر من مرة أولها بتاريخ 16 سبتمبر 2014 وبالرغم من المكان إذ كنت برفقة زوجة أخى بالمستشفى حيث أدُخلت لتضع مولودها البكر فى ظروف شديدة الصعوبة مرت بها بنغازى فى وقتها ، إلا أن الفيلم بمايمثله من ذكرى لأيام جميلة ، وقوة الطرح و القيمة الفنية له ، جعلنى استغرق كليا فى المشاهدة وكأنها المرة الأولى . 

 ( زد )  هو فيلم من إخراج اليونانى كوستا غافراس ، ومن إنتاج فرنسى – جزائرى ، ومن بطولة النجم الفرنسى إيف مونتان ، و النجمة اليونانية إيرين باباس ، والنجم الفرنسى جان لوي ترنيتان ،بالإضافة لمجموعة ممثلين أوربيين وجزائريين .

يتناول الفيلم  قضية (الاغتيال السياسى) من خلال قصة مأخوذة عن عمل روائى يحمل الاسم نفسه للروائى اليونانى "فاسيلي فسكيلوس" ، الذى استوحى أحداثها من حادثة اغتيال د. جريجوري لامبراكس السياسى اليوناني الذى اعتُبر من الشخصيات القليلة التى تطلع إليها اليونانيين بالذات جيل الشباب وطلاب الجامعات لمحاربة الفساد والاستبداد والتبعية للويلايات المتحدة الإمريكية ، فقد كان طبيب منحاز للطبقات الفقيرة من أبناء شعبه ، فساهم فى تقديم الخدمات الصحية المجانية من خلال اقامة مستشفيات خيرية .

وتقوم  الحبكة الدرامية للفيلم على حادثة اغتيال النائب الديمقراطى المنتمى لصفوف المعارضة ، من خلال افتعال احداث شغب امام المكان الذى سيقوم النائب بالاجتماع فيه مع أنصاره لالقاء محاضرة تتناول الوضع السياسى للبلد ، و يتطرق للهيمنة الأمريكية وللفساد المتغلغل فى مفاصل الدولة ، و لن يتاح الوقت للنائب كى يكمل محاضرته إذ يتعرض للضرب الشديد وسط تدافع الجماهير ، وتشابك انصار النائب مع الغوغائيين المتجمعين بالشارع ، ليسقط النائب ولكن لايبقى على قيد الحياة لوقت طويل بعد وصوله للمستشفى واجراء جراحات سريعة وخطيرة فيتم اعلان خبر الوفاة وسط اجراءات امنية متشددة منعا لاحداث شغب او تظاهرات يقوم بها انصار النائب الديمقراطى ، زوجة النائب تصر على البحث عن الحقيقة وراء وفاة زوجها خاصة بعد استماعها لما سيقوله لها رفقاء الزوج /النائب عن وجود شبهة قتل .

يكُلف قاضى نزيه بالتحقيق فى الحادثة التى تسعى الأجهزة الأمنية والقيادات السياسية بالبلد لاخفاء معالم الجريمة و الإيحاء للمحقق النزيه بأنها مجرد أحداث شغب عادية وقعت إمام المبنى، ومع استمرار القاضى فى التحقيقات واستدعاء المشتبه فيهم ، بالإضافة للاستماع لشهادات رفقاء النائب ويواجه ذلك القاضي ضغوطا رسمية وسياسية من القيادات العليا بالبلد من اجل اخفاء تلك الجريمة وتغطية اثارها واسبابها وتفاصيلها.

بالنهاية يتبين للقاضى أن الجريمة هى تصفية لخصم سياسى أقلق القيادات السياسية والعسكرية بالبلد بمعارضته للهيمنة الامريكية على ذلك البلد ، وسعيه لممارسات القمع و الفساد .

يلعب الصحفى الشاب المستقل دور بارزا ً إلى جانب القاضى النزيه من أجل الكشف عن الحقيقة ، كلا من موقعه بالمجتمع . كما يبرز الفيلم دور طلبة الجامعات فى التصدى للدكتاتورية والقمع ، والقتال من أجل الديمقراطية من خلال مساندتهم الواعية والقوية للنائب ، ثم مشاركتهم فى مظاهرات حاشدة احتجاج على مقتله ، والاصرار على معرفة الحقيقة وراء الحادث .

يتم تناول هذه الحادثة أى الجريمة السياسة بأسلوب بوليسى عبر سيناريو سلس ، ملىء بالتشويق والأثارة والبحث والتقصى فى تتبع خيوط الجريمة من خلال الغوص فى المجتمع ، وتقديم تفاصيل عن علاقات المصالح التى تربط الفاسدين بعضهم البعض بداية من كبار القيادات العسكرية ، ورجال الاعمال ، و رجال الكنيسة ، وصحافيين كبار ، و انتهاءً بشواذ المجتمع من قتلة ولصوص ومنحرفين .

يصل القاضى الى نهاية التحقيق الذى يكشف خيوط الجريمة ، فتتطاير رؤوس كبيرة من قيادات امنية وعسكرية وسياسية ودينية وقبل أن تبدأ المحاكمة  يموت الكثير من الشهود فى حوادث غامضة فيها شبهة جنائية ، وينال الضباط الأربعة الكبار توبيخا اداريا فقط ،وتقدم الحكومة استقالتها ، و يظهر أن الحزب اليسارى سيفوز بالانتخابات  المقبلة على الأبواب ، إلا أن الانقلاب العسكرى يقع فيكون  مصير عدد من أعضاء الحزب من رفقاء النائب بالموت انتحارا ً او بحادث سيارة ، ونوبة قلبية ، والنفى خارج البلاد ، ويكون السجن من نصيب الصحفى الشاب لافشائه أوراق رسمية أى الأوراق المتعلقة بسير التحقيقات فى قضية اغتيال النائب ، فى حين ينتهى بقاضى التحقيق بالطرد من الوظيفة   ، و عبر صوت امراة تظهر على خلفية صورة لدبابات تملىء الشوارع نتعرف على الممنوعات فى العهد الانقلابى الجديد التى ستثير دهشة واستغراب العالم ، إذ يُمنع إطالة الشعر للرجال ، وارتداء الملابس القصيرة ، ومنع تداول كتب سوفوكليس ، تولستوى و يوربيدس ، وبيكيت ، ودييسوفسكى  ، الاضرابات ، ارسطو ، يونسكو ، و سارتر ، وسقراط ، حرية الصحافة ، علم الإجتماع ، و الموسيقى العصرية ، والموسيقى الشعبية ، و الرياضيات الحديثة ، بالإضافة لمنع الشعب من استعمال حرف زد الذى يعنى فى اليونانية القديمة "إنه لايزال حيا ً" ، وذلك فى محاولة عقيمة لقتل افكار الدكتور " جريجوري لامبراكس" الذى ظلت افكاره حية رغم مرور قرابة الخمسين عام على اغتياله .

صورت أحداث الفيلم فى مدينة الجزائر لتشابهها مع طبيعة مدينة أثينا التى لايذكرها الفيلم بالاسم ، ذلك تفاديا لاثارة المشاكل مع النظام الانقلابى انذاك، ومحاولة لالتفاف عليه من أجل السماح بعرض الفيلم ولكن دون جدوى إذ منُع من العرض ، كما وُضع المخرج والمشاركين بالعمل على القائمة السوداء لنظام الأنقلابى الذى لم يسقط إلا فى العام 1975 بعد الفشل فى ايقاف العملية العسكرية التى قام بها الجيش التركى لاحتلال الجزء الشمالى من جزيرة قبرص .

وضع الموسيقار اليونانى الشهير ميكيس ثيودوراكس الموسيقى التصويرية للفيلم فجاءت مكملة لعناصر الفيلم الفنية ، إذ يضفى مسحة من الحيوية والمرح بموسيقاه المصاحبة للظهور الأول لنائب المحبوب فى أثناء استقباله من قبل انصاره بالمطار ، كما ستكون فى مواضع أخرى بالفيلم سريعة ، متوترة ، تماشيا مع سرعة الاحداث والمطاردات فى شوارع المدينة .

نال فيلم (زد) العديد من الجوائز العالمية من بينها  جائزة أفضل فيلم أجنبي بمهرجان كان (عام 1969)، كما فاز بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان (عام 1969)،  و جائزة نقاد نيويورك لأفضل فيلم (عام 1969) ، وحصل الممثل جان لوي ترنتيان- على جائزة أحسن ممثل (عام 1969) ، و جائزة الأوسكار لأفضل فيلم بلغة أجنبية (عام 1970) ، وجائزة الأوسكار لأفضل مونتاج (عام 1970) ، و جائزة الجولدن جلوب لأفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية (عام 1970) ، و جائزة البافتا لأفضل موسيقى فيلم (عام 1970) ، و جائزة الجمعية الوطنية لنقاد السينمائيين لأفضل فيلم (عام 1970) ، و جائزة إدغار لأفضل فيلم سيناريو سينمائى (عام 1970) .

هناك تعليق واحد: