الاثنين، 19 يناير 2015

كتاب الضحك والنسيان ..


اضطر الكاتب التشكى "ميلان كونديرا" لمغادرة بلاده عقب دخول الدبابات السوفيتية لبراغ عاصمة بلاده  صيف 1968م، و مع فقدانه لوظيفته ،و منع كتبه من التداول لمدة خمس سنين، قرر الاتجاه للغرب حيث استقر فى باريس قبل أن يصدر كتاب "الضحك والنسيان " ليحُرِم  عام 1978م من الجنسية التشيكية ، فيتم منح كونديرا الجنسية الفرنسية فى العام 1981 ، حيث لايزال يعيش بباريس منذ أكثر من ثلاثة عقود ، لايعود فيها لبلاده إلا فى زيارات سريعة .

فى كتاب " الضحك والنسيان" لم يرى "ميلان كونديرا" ضرورة اعتماد حبكة تقليدية تربط أجزاء الكتاب ببعض ، إذ تضمن قصص متنوعة لاتجمع بينها سوى وحدة الموضوع أى الضحك والنسيان ، فى حكايات وحياة الناس فى وطنه الأصلى تشيكوسلوفكيا أو بوهيميا كما يذكرها بالأسم فى الكتاب .

 و يتناول أحداث تاريخية منذ الحرب العالمية الأولى وحتى العام 1969م أى عام وصول "غوستاف هوساك " إلى الرئاسة بمساعدة الروس ، ولكن لاتخضع تلك القصص الممزوجة بالتاريخ لأى تسلسل تاريخى فى سرد هذه الأحداث إنما يوردها دونما مراعاة لتسلسل الأحداث زمنيا ً.

كتاب "الضحك والنسيان" لا يتم تعريفه كرواية، إذ يعلن كونديرا نفسه ضمن احد أجزاء الكتاب بأنه :"..رواية تتخذ شكل تنويعات لحنيه"، و لميلان رأى مختلف حول الشكل الروائي ، إذ يرى بعدم ضرورة التقيد بالشكل التقليدى أو حصر تعريف الرواية فى شكل نمطى معين . 

من خلال هذا الكتاب/الرواية اتلمس أسلوب كونديرا فى نسج نص نثرى حافل بالتراكيب من استعمال للسرد الروائى ، والمقال ، و توليد الخيالات والمواقف الفنتازية ، والوقائع التاريخية ، مستخدما أصوات متعددة من بينها صوته الخاص ، إذ يمكن أن يُسمع صوت كونديرا مباشرة دون مواربة أو حيلة فنية فى الجزء السادس عندما يستطرد أكثر حول حادثة تاريخية وقعت فى شهر فبراير عام 1948 م عندما وقف الزعيم الشيوعي "كليمان غوتوالد" على شرفة قصر يرجع للعصر الباروكى بمدينة براغ ليخطب في إعداد كبيرة من المواطنين الموجودين في ساحة المدينة القديمة فى طقس شديدة البرودة ، جعل من "كليمانتس" ينزع قبعته الفرو ليضعها على رأس "غوتوالد" ، ويتم التقاط صورة ستوزع بمئات الآلاف من النسخ فى بوهيميا بعد ذلك بأربع سنوات يتهم "كليمانتس" بالخيانة، ثم يشنق فتقوم شعبة الدعاية بالحزب الشيوعى بأزالة "كليمانتس" من كل الصور الفوتوغرافية ليظل "غوتوالد" يظهر وحيدا ً على الشرفة دون "كليمانتس" .
 عندما يتناول كونديرا هذه الحادثة التاريخية فى هذا الجزء من الكتاب/الرواية سيكون حديثه مباشر حول الفترة التى تعلم فيها الموسيقى على يداى والده ، كما يمر بنا على أكبر عميلة محو وأزالة وتعديل لذاكرة الثقافية لتشكيا فى تلك المرحلة .

كما نلمح الآراء الشخصية لكونديرا فى الجزء الأول :"الرسائل الضائعة " على لسان  الكاتب ميريك الذى يرى أن صراع الإنسان ضد السلطة هو بالدرجة الأولى صراع الذاكرة ضد النسيان .

فى كتاب "الضحك والنسيان" يعكس كونديرا ميراث بوهيمياالسحرى إذ يمزج فى كل حدث بين الواقعى والخيالى ، دون أن يتحول ذلك لهروب من واقع قاتم ، بل لمزيد من التعرية لذلك الواقع الأليم بالنسبة له ،بعد الغزو السوفييتى للبلد دُمرت الحياة الثقافية فى تشيكوسلوفاكيا ، بشكل لم يعرف تاريخ الشعب التشيكى منذ عام 1961 م مجازر مماثلة فى حق الثقافة والمثقفين ، إذ  منُعت أعمال أدبية كثيرة شكلت جزء من الأرث الثقافى الأوربى الحديث كأعمال كافكا، كما إقدم الرئيس "هوساك" على طرد مائة وخمسة وأربعين مؤرخا ً تشيكيا من الجامعات والمعاهد العلمية ، ماجعل واحد من أولئك المؤرخين ، وهو "ميلان هوبل" يصف ماحدث أثناء زيارة لشقة كونديرا ببراغ فى العام 1971 ، قائلا : :" لتصفية الشعوب ، يُشرع بتخريب ذاكرتها ، وتدمير كتبها وثقافتها وتاريخها. وينبري آخرون لتأليف كتب أخرى ، وإيجاد ثقافة أخرى وإبتداع تاريخ آخر . بعد هذا يبدأ الشعب شيئا ً فشيا فى نسيان من هو وكيف كان .فينساه العالم من حوله بشكل أسرع  ".

من أمتع الأجزاء فى هذا الكتاب هو مشهد اجتماع كبار أدباء بوهيميا  فى الجزء الخامس الذى يحمل عنوان :" ليتوست " فيضع "كونديرا" مقال يتضمن وصف وشروحات مطولة لكلمة(ليتوست) من اللغة التشيكية  التى لايوجد لها مثيل فى أى لغة ، ويقول حول معنى هذه الكلمة أنها : " .. الليتوست حالة من العذاب ناشئة عن مشهد بؤسنا الخاص المنكشف فجأة.. ويشكل الحب أحد العلاجات المألوفة من بؤسنا الخاص، هذا لأن الشخص المحبوب حباً تاماً لا يمكن أن يكون بائساً فكل العيوب تتغاضى عنها نظرة الحب السحرية .." ، و يحاول تقديم مثال حول هذه الحالة من خلال الطالب وعلاقته بكريستين زوجة جزار قريته ، بالإضافة للقاء الذى يجمع الطالب بكبار شعراء بلده فى ناديهم  حيث يعطيهم كونديرا أسماء ألمع وأشهر أدباء أوروبا، مثل: غوته، ليرمنتوف، بركاس، بترارك، فولتير ، كما يخلق  فى هذا اللقاء حكايات ونقاشات تحفل بسلسلة مواقف كوميدية يقع فيها أولئك الكبار بحياتهم خارج ذلك النادى .

اكثر الشخصيات التى اعجبتنى فى الكتاب /الرواية ، هى شخصية "تامينا" التى تسعى طوال الوقت لاسترداد رسائلها ودفاترها الخاصة التى سجلت عليها ذكرياتها وأهم أحداث حياتها فى موطنها الأصلى قبل أن تغادر برفقة زوجها الذى تعرض للاضطهاد والطرد بعد " ربيع براغ "  فأنتهى بهما الحال مهاجرين فى بلد بغرب أوربا دون أن يذكر كونديرا اسمه مبقيا حالة من الابهام حوله ، ولكنه يركز طوال هذا الجزء على سرد محاولات "تامينا" للحصول او استرداد تلك الرسائل والمذكرات بعد وفاة زوجها ، فهى  تثابر بشكل يومى على التذكر وتذكير نفسها بأحداث ومناسبات وعطلات مرت بها فى حياتها فى براغ ، ولكنها تفشل فى استرداد تلك الرسائل ، و ينتهى بها الحال الى الموت غرقا  وهي تتحدث ، بين ضحكات الملائكة التى يستعملها كونديرا كثيرا فى هذا العمل .

لا يعمل" كونديرا " على تطوير الثيمات التى طرحها فى هذا العمل من خلال بنية  العمل الروائى ، فيكتفى بالاستطراد والاسهاب عبر تأملات فكرية ، أو مقالات ، ووقائع تاريخية تساهم فى خلخلة البنية الروائية للعمل ، وتقدم للقارىء شخصيات سطحية  فى تفكيرها وسلوكها مفتقدة للعمق النفسى ، و الثراء الروحى ، و خصوبة التجربة ، يمكن نسيانها بسهولة بعد مرور وقت على قراءة هذا الكتاب .

لايغيب الجنس أو استعمال المشاهد الحافلة بالجنس عن هذا الكتاب/الرواية ، فهو لايترك أى نوع دون أن يحشره فى متن العمل بأجزاءه  السبعة ، فيتحول استعماله إلى وسيلة تحمل الكثير من الإسفاف والانحطاط ، فكونديرا يضع مشاهد لكل أنواع الجنس حتى المقزز والمثير للقرف والاشمئزاز ، دون أن يكون لهذا الاستعمال أى هدف يخدم العمل الروائى ، أى أن يكون استخدام يرتفع به ولايحط من قيمته الفنية ، إذ بمقارنة بين رواية "عشيق الليدى شاترلى " للأنجليزى ديفيد هربرت لورنس التى قرأتها فى الأيام الماضية سيكون لاستعمال لورانس لأهداف اجتماعية تعرى الطبقة العليا بالمجتمع الأنجليزى بعد الحرب العالمية الأولى .
 

هناك تعليق واحد:

  1. طريقتك رائعه كالعاده سواء لعرض روايه او كتابه او فيلم أو اي موضوع,وواضح أنك تملكين مفاتيح الكتابه
    اتمني ان تترجم هذه الملكه الي كتاب او روايه وألا تكون حبيسة التدوين والفيسبوك,لامزيد من التأجيل,لامزيد من الاعذار,ابدئي فقط وستجري الامور علي خير ان شاء الله....

    ردحذف